لا مسعود ولا خصومه

الجمعة 2017/09/15

في أول أيام الغزو الأميركي للعراق، وفي عز التلاحم المصلحي بين الحلفاء المبشَّرين بالجنة الأميركية – الإيرانية، أكد مسؤول كردي كبير أن الجبهة الكردستانية نادمة على تحالفها الاضطراري مع الأحزاب الدينية الشيعية، ليس في فترة ما بعد سقوط نظام صدام حسين، فقط، بل قبل ذلك بكثير، ربما قبل مؤتمر فيينا الذي كان أحمد الجلبي واجهتَه الظاهرية العابرة.

واعترف ذلك المسؤول، يومها، بأن عجز القوى السياسية العراقية الليبرالية واليسارية المعارضة عن إسقاط نظام صدام حسين بقواها الذاتية، وحدها، أجبر الجبهة الكردستانية على الانخراط في تحالف مرحلي مرهِق ومتعِب مع جماعات دينية طائفية أصولية متشددة تعمل بوصاية إيرانية وسورية كاملة، ولا تتفق مع القيم والمبادئ الـ”ديمقراطية” التي قال إن أحزاب الجبهة الكردستانية تقوم عليها.

ومع الاعتراف بأن في كلامه الكثير من الصدق والواقعية المحزنة، مع الأسف الشديد، إلا أن ذلك لا يشكل المبرر الكافي لاقتسام الوطن وأهله وثرواته مع قوى لم يُعرف عنها الصدق والأمانة والنزاهة واحترام العهود والالتزام بالمواثيق.

ولأن ذلك التحالف كان عشوائيا، ودون آليات محددة، وبلا ضمانات دولية رادعة تضبط قـواعدَه وتضمن ديمـومته وتحميه من الانحراف والاستغلال، فلم يكن مُستغربا ولا مُستبعدا أن يصيب الغرور والطمع وهوس القوة والجبروت أحد الطرفين المتحالفيْن، بعد أن يمتلك السلطة، فيكسر قواعد اللعبة، ويسمم روح الشراكة، ويستفرد بالقرار.

وقد بيَّنت المناوشات والاستفزازات والتجاوزات والاحتكاكات التي بدأها نوري المالكي، في زمن رئاسته الثانية، 2010 وما بعدها، ضد حكومة إقليم كردستان، على أن ذلك التحالف بالغٌ نهايته لا محالة، في قادم الأيام.

وما يحدث اليوم بين مسعود البارزاني ومحازبيه ومؤيديه من جهة، وبين جماعة إيران في المنطقة الخضراء، من جهة ثانية، دليل واضح على أن الشراكة في الحكم بين شخصيات وأحزاب وقوى غير منسجمة، وغير متقاربة في الرؤية والعقيدة والهدف، وغير مبرأة من المطامع الزعاماتية والعنصرية والطائفية، لا بد لها أن تصبح في قادم الأيام، أو الشهور أو السنين، قنبلة موقوتة تنفجر في وجوه أصحابها.

ورغم أن التعصب الأعمى لأي شيء كان ويظل أبغضَ شيء عند الله الذي أوصى عباده بالاعتدال، وبأن خير الأمور أوسطها، إلا أن ما يجري في العراق اليوم بين البارزاني وخصومه هو أسوأ أنواع التعصب والتزمّت والبعد عن الاعتدال في الموقف والخطاب والقرار.

وبغض النظر عمّا قيل أو يقال عن الاستفتاء المقبل، وعن احتمال إعلان الاستقلال، فإن كردستان، منذ العام 1991 وحتى اليوم، “ولاية” كانت ملصقة بالعراق ثم غادرته وخرجت من عباءته إلى غير رجعة، وأصبحت دولة مستقلة لها حكومتها وجيشها وعلمها وبرلمانها وسفاراتها، ولا يدخلها العراقي إلا بتأشيرة مسبقة. رغم أنها عرفت من أين تؤكل الكتف حين أبقت على حصتها في النصف العربي العراقي، وبقيـت فيه تأمـر وتنهى فيـه، بحكم الدستور، وبرضى الداعين اليوم إلى غزوها وذبحها، وإلى طرد كـل مواطـن كردي وإرساله إلى مسعود، حتى لو كان أجداد أجداده من ولادات بغداد ومحافظات الوسط والجنوب.

أما اللطامون المتباكون اليوم على وحدة الوطن، وعلى حرمة الدستور، وبالأخص إيران ووكلائها، وتركيا وحلفائها، وسنة المالكي، وسنة العروبة الخائفة على أمنها من النفوذ الإسرائيلي، فإنهم يعرفون ويحرفون، يدعون الحمار ويمسكون بالبردعة، ولكلٍ منهم مصالحه ودوافعه التي تؤجج مخاوفه من انفصال الدولة “المنفصلة” أصلا منذ زمن طويل.

وكان ممكنا لمشروع استفتاء مسعود البارزاني أن يحظى بدعم الملايين من العراقيين الغاضبين الناقمين الساخطين على فساد الحكم الطائفي المتخلف الذي اختلس أموال الدولة، وفرّط في حقوق أهلها، وباع سيادتها، وتاجر بدماء أبنائها، لو كان مشروعا كرديا شعبيا حقيقيا ولد ولادة طبيعية ديمقراطية نزيهة، ومتوافقا مع صيغ الحق المشروع التي ضمنتها قوانين الأرض والسماء.

ولكن التعالي والغرور، وإرادة فرض الأمر الواقع بالقوة على الآخرين، ووضع اليد على المناطق “المختلَف” عليها واستعمارها، واحتلال آبار نفطها، بعد أن كانت، منذ زمن بعيد، ملتقى الأعراق والأجناس والطوائف والأديان المتصالحة المتآلفة المتعايشة، كل ذلك جعل الكثيرين من المستقلين والليبراليين والديمقراطيين واليساريين يرفضون سياسة الاستحواذ والاستغلال والاستضعاف، وينبذون التهوّر، ويكرهون المقامرة بمصائر الأوطان والشعوب.

خلاصة هذا المقال أن حفنة من تجار السياسة وباعة الشعارات الطائفية والقومية، من العرب الشيعة والسنة والأكراد، خرّبت بيوت العراقيين، وها هي اليوم مصرّة على تخريب ما بقي منها، وهم لا يعقلون.

ملاحظة، لقد خرج الصراع، اليوم، من إطار المماحكات والمشاحنات السابقة على وزارة أو على سفارة، ليصبح افتراقا مصيريا حاسما بين حلفاء الأمس الذين لم يفتَضحوا عندما كانوا يسرقون، ولكنهم يفتَضحون اليوم عندما اختلفوا فيما كانوا يسرقون. ولله في خلقه شؤون.

كاتب عراقي

8