لا رئيس قريبا للبنان

بعد فشل البرلمان اللبناني للمرة الثانية عشرة على التوالي في انتخاب رئيس جديد للبلاد، تضاءلت آمال اللبنانيين في تجاوز حالة الجمود السياسي والانكباب على معالجة الملفات الاقتصادية الملحة. ولا تشير التوقعات الأكثر تفاؤلا إلى اقتراب نهاية الأزمة السياسية.
بيروت - يشكك محللون لبنانيون في جدية دعوات الحوار والتوافق التي يطلقها الفرقاء السياسيون لتسهيل عملية انتخاب رئيس جديد للبلاد في ظل تضاد المقاربات والحسابات السياسية، ما يترك البلد في حالة من الجمود السياسي تزيد من التعقيدات الاقتصادية.
وتنقسم الدعوات التي يطلقها فريقا الانقسام في لبنان من أجل الحوار والتوافق على انتخاب رئيس جديد للبلاد في ما بينها على المعنى المقصود من الحوار. وأبلغت كتلة الثنائي الشيعي التي نجحت في جمع 51 صوتا مؤيدا لمرشحها سليمان فرنجية زعيم تيار المردة في جلسة الانتخاب رقم 12 التي جرت الأربعاء الماضي، الأطراف الأخرى بأنها تدعو إلى الحوار على أساس تثبيت فرنجية، ليكون الحوار بذلك حول ما هو مطلوب منه كرئيس.
وأما الفريق الآخر، والذي يضم الكتلة المسيحية الأكبر، فيدعو إلى حوار حول قضايا الإصلاح المطلوبة، وإلى تخلي الثنائي الشيعي عن فرنجية بالنظر إلى أنه لا يحظى بدعم الكتلة (المسيحية) المعنية به. ويوحي هذا المطلب بإمكانية التخلي عن ترشيح جهاد أزعور مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي لصالح التوصل إلى مرشح ثالث يتوافق مع ما يمكن التوصل إليه من نتائج الحوار على قضايا الإصلاح.
ويقول مراقبون إن الثنائي الشيعي أبلغ خصومه أن زعيم حزب الله حسن نصرالله قرر أن “يثبت” مرشحه “كما يثبت خاتمه هذا”، وذلك في سياق الحادثة التاريخية للتحكيم في الخلاف بين معاوية بن أبي سفيان وعلي بن أبي طالب حيث اتفق الوسيطان، وهما أبوموسى الأشعري وعمرو بن العاص، على أن يرتقيا المنبر ليعلنا خلع الطرفين ويتركا أمر اختيار الخليفة للناس، فلما خلع الأشعري صاحبه علي بن أبي طالب “كما أخلع خاتمي هذا”، فقد ارتقى بن العاص المنبر من بعده ليقول “وأنا أثبت صاحبي، كما أثبت خاتمي هذا”.
وبحسب حادثة “تثبيت الخاتم”، فإن فرنجية هو الآن في منزلة علي بن أبي طالب في أعين الثنائي ويريد أن ينتقم به من خديعة ابن العاص، وكأن لبنان يعيش في القرن الأول الهجري. ويقول مسؤولون في الثنائي إنهم يثبتون فرنجية على أساس أنه “لن يطعن المقاومة في ظهرها”، بينما يقول الفرقاء الآخرون إن “ظهر المقاومة” ليس هو موضوع الأزمة، وإنما “ظهر لبنان” الذي يتهدّده الكسر بالإفلاس التام. وإذا حدث ذلك، فليس مفهوما كيف يمكن لـ”ظهر المقاومة” أن يبقى ظهرا، أو لمن؟ أو من أجل ماذا؟
وكان من اللافت أن رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل الذي دعم ترشيح أزعور قال إن حوارا بشروط مسبقة لا يعد حوارا. ودعا حلفاءه السابقين إلى ملاقاته على “ورقة الأولويات الرئاسية، والتعديلات اللازمة عليها، فيسهل التلاقي على الأسماء التي تتناسب مع برنامج سيادي إصلاحي وخلاصي". وأما رئيس حزب الكتائب اللبنانية النائب سامي الجميّل فدعا الثنائي إلى التخلي عن مرشحه وطرح مرشح توافقي قبل أي حوار.
ويقول مراقبون إن الثنائي ينظر إلى الترشيحات الرئاسية على أنها صدام بين مشروعين: الأول هو “مشروع المقاومة” الذي تدعمه إيران. والثاني هو مشروع الإصلاحات التي يطلبها صندوق النقد الدولي، والتي ينظر إليها الثنائي على أنها تتقاطع من مؤامرة أميركية لإضعاف مواقع “المقاومة” ونفوذها في لبنان. وإذ يتمسك الثنائي بتثبيت “صاحبه”، الذي أصبح بمنزلة علي بن أبي طالب، فلكي لا يحقق المشروع الآخر انتصارا كما حققه معاوية بن أبي سفيان. وهو ما يجعل الترشيحات صراعا على المشاريع، ولا سبيل قريبا في ما بينها لانتخاب رئيس.
وتتجاهل الأصوات الداعمة للثنائي أن أزعور حصد 59 صوتا، معظمها من النواب المسيحيين، حيث يقتضي العرف السائد أن يكون الرئيس مسيحيا مارونيا، بالقول إن ترشيحه جاء نتيجة “تقاطعات” يمكن أن تتفكك، بينما يمتلك فرنجية “بلوكا” صلبا مؤلفا من 51 صوتا “مرجّحا للارتفاع مع تبدّل الظروف الخارجية".
وترمي الإشارة إلى "الظروف الخارجية” إلى أن إيران وقطر سوف تتكفلان بشراء المزيد من الأصوات الداعمة لفرنجية، بحيث يتمكن من حصد أصوات تزيد على ما حصده أزعور، وذلك على الرغم من بقاء احتمال “تطيير النصاب” قائما. وفي المقابل، تميل الكفة الفرنسية إلى المعادلة السابقة والتي تقضي بانتخاب فرنجية للرئاسة ومرشح مثل تمام سلام لرئاسة الوزراء.
وعلى الرغم من أن السعودية لم تحسم أمرا صريحا في هذا الاتجاه أو ذاك، على سبيل النأي بالنفس، وللمحافظة على مسارات التطبيع مع إيران، فإن أطراف المعارضة تقول إن ثنائي "فرنجية - سلام" سوف يكرر تجربة "عون - الحريري"، أي واحد يحمي "ظهر المقاومة"، والآخر يريد الإصلاح من دون أن يقدر عليه. وتشجع الثنائي الشيعي على التمسك بتثبيت فرنجية حقيقة أن هناك أصوات 18 نائبا قابلة “للتداول”، حسب الضغوط أو حسب عروض الشراء.
◙ الثنائي يريد تثبيت فرنجية على أساس أنه لن يطعن المقاومة في ظهرها، بينما يرى الآخرون أن ظهر لبنان هو جوهر الأزمة
وبحسب النتائج التي أعلنها رئيس البرلمان نبيه بري لجلسة تصويت الأربعاء، فقد توزعت أصوات 127 نائبا من مجموع 128 في الدورة الأولى على 59 صوتا لأزعور، و51 لفرنجية، واقترع 8 نواب بورقة كتبوا عليها “لبنان الجديد”، واقترع 6 نواب للوزير السابق زياد بارود، ونائب واحد صوّت لقائد الجيش العماد جوزيف عون، وورقة بيضاء.
وهؤلاء هم الذين يجري التعويل على “تداولهم” على المشاورات الجانبية التي تجري الآن. ولكن ذلك لا يضمن شيئا من ناحية توفير النصاب للجلسة الثانية والتي تتطلب حضور 86 نائبا على الأقل، قبل أن تتم دورة التصويت الثانية التي يتطلب الفوز فيها 65 صوتا، بدلا من الثلثين في دورة التصويت الأولى. ولن يتحقق هدف النصاب ما لم تتم استمالة إحدى الكتل الكبيرة.
ومنذ انتهاء ولاية الرئيس اللبناني السابق ميشال عون في نهاية أكتوبر من العام 2022، فشل البرلمان في انتخاب رئيس للبنان في وقت لا يحظى أي فريق بأكثرية تمكنه منفردا من إيصال مرشحه إلى المنصب الشاغر حتى الآن.
وبفعل تعقد الحسابات السياسية والطائفية في لبنان، فإن اختيار رئيس للبلاد، أو حتى تشكيل حكومة أو تكليفها، يستغرق في العادة أشهرا عديدة. وفي العام 2016 وبعد أكثر من عامين على الشغور في سدة الرئاسة جاء انتخاب عون رئيسا للبلاد بعد 46 جلسة برلمانية بموجب تسوية سياسية بين الفرقاء السياسيين. لكن الفراغ السياسي القائم في لبنان حاليا يبدو مختلفا في ظل أزمة اقتصادية غير مسبوقة تعاني منها البلاد وأفقدت العملة المحلية أكثر من 98 في المئة من قيمتها منذ عام 2019.