لا بد من الرباط وإن طال السفر

قوة الحجة المغربية تجعل الرباط في موقف غير قابل للمساومة على الحقوق المشروعة وغير المستعد لمناقشة الأفكار والمبادرات المفلسة التي تجاوزها الزمان ولم يعد لها أي مؤشر على الخارطة الجيوسياسية.
السبت 2024/11/02
موقف فرنسي منصف للحق المغربي

عندما أعلن وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو أن وزارته قررت تعديل صورة خريطة المغرب على موقعها الرسمي، ووعد بأن بلاده ستعمل على تعزيز حضورها القنصلي والثقافي من أجل إحداث رابطة فرنسية بالأقاليم الجنوبية، وأنها ستكون إلى جانب المغرب “من أجل حل سياسي عادل ومستدام، يشكل مخطط الحكم الذاتي لسنة 2007 أساسه الوحيد”، كان يترجم الانتصارات المغربية بلغة الفعل المكرّس للرؤية الملكية سواء في الاتحاد الأوروبي أو في مجلس الأمن أو في منظومة الغرب السياسي عموما، ويشير بما لا يدع مجالا للشك إلى أن أيّ محاولة للخروج عن حقيقة التاريخ والجغرافيا في إطار الوحدة الترابية المغربية تعتبر عبثا غير قابل للتعويل عليه أو الاعتداد به.

في لحظة فارقة، أكد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن بلاده ستنشط دبلوماسيا في الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي لدعم مقترح الحكم الذاتي الذي يطرحه المغرب حلا وحيدا للنزاع حول الصحراء. وقال بوضوح تام “بالنسبة إلى فرنسا، يندرج حاضر هذه المنطقة ومستقبلها في إطار السيادة المغربية”. جاء ذلك الموقف خلال زيارة تاريخية أداها إلى الرباط، شكلت منطلقا جديدا للعلاقات الإستراتيجية بين البلدين، وحققت انتصارا تاريخيا للموقف المغربي والرؤية الملكية بخصوص الوحدة الترابية الوطنية وعقيدة الجغرافيا الممتدة على امتداد الشرعية التاريخية غير القابلة للتشكيك فيها أو المساس بها.

◄ الموقف الفرنسي الداعم لموقف المملكة بخصوص وحدتها الترابية جاء ليؤكد أن المغرب اليوم هو نافذة الشمال على الجنوب، وبوابة أفريقيا الطبيعية والإستراتيجية، وصاحب الفاعلية الثقافية المؤثرة بين شعوب القارة السمراء

الموقف الفرنسي المنصف للحق المغربي أكد أن الدول لا تحكمها العواطف وإنما المصالح، وأن كلمة القوي تبقى هي الأعلى، وأما الضعفاء فليس أمامهم إلا الاستسلام للهزيمة والفناء، والمترددون خاسرون في كل الأحوال، بينما المصرون على حقوقهم، الممسكون بمقاليد عزائمهم، والمتجندون لخدمة قضاياهم لا يكتفون بتحقيق النجاح الذي يطمحون إليه، وإنما يجبرون العدو قبل الصديق على الاعتراف بقدراتهم الفائقة على تحقيق مطامحهم وتأمين مصالحهم.

منذ توليه الحكم، سعى العاهل المغربي الملك محمد السادس إلى فرض إرادة القوة في التعامل مع المجتمع الدولي، واعتماد منطق الندية في التعامل مع الأشقاء والأصدقاء، والاستفادة من موقع المملكة الجيوسياسي وعمقها الإستراتيجي وثرائها الحضاري وجاذبيتها الثقافية في تجسيد روح العدالة بتأمين القوة التي تحميها وتصونها، انطلاقا من أن صاحب الحق ليس فقط الذي يعتقد فيه، وإنما الذي يتمسك به ويصرّ عليه ويؤمن به، ويحدد مسارات حاضره ومدارات مستقبله وفق ما يعنيه الدفاع عن ذلك الحق.

عرفت المملكة ثلاث خطوات حاسمة على طريق الانتصار الحتمي في ملف وحدتها الترابية. كانت خطوة الحسم الأولى في السادس من نوفمبر 1975 عندما قاد الملك الراحل الحسن الثاني المسيرة الخضراء الكبرى نحو الأراضي الصحراوية المغربية بهدف استرجاعها وإنهاء الاستعمار الإسباني لها، شارك في المسيرة 350 ألف مغربي ومغربية، وهي الحدث التاريخي العظيم الذي أطاح بمؤامرات المتآمرين وحسابات المناوئين وقطع الطريق أمام أصحاب الأطماع التوسعية، وأعاد الفرع إلى الأصل، والحق إلى أصحابه، وفسح المجال أمام المملكة لاسترداد أقاليمها السليبة.

وأما خطوة الحسم الثانية، فقد خطاها الملك محمد السادس عندما اقترح في 2007 منح المنطقة حكما ذاتيا. وهو الحل العلمي والمنطقي والمنهجي والمنسجم مع وضوح الرؤية السياسية والإستراتيجية وخصوصيات التاريخ والجغرافيا والثقافة والمصلحة العليا للمملكة والمنطقة، وقد اعتبر كل من لديه عقل سليم ورأي حكيم أن لا حل سوى بما ورد في ذلك المقترح الذي عبّر عن إرادة ملكية سامية في طي ملف مخلفات الحرب الباردة والنظر إلى المستقبل بالكثير من الأمل في بناء علاقات أخوية صادقة مع الجار المتنطع المحكوم بنزعات التفريق والتبديد والتأزيم.

في خطابه بمناسبة ذكرى “ثورة الملك والشعب” في أغسطس – آب 2022، كانت الخطوة الثالثة الحاسمة عندما دعا الملك محمد السادس شركاء بلاده الذين لا يؤيدون بوضوح موقف الرباط بشأن النزاع في الصحراء المغربية إلى “توضيح مواقفهم”. وأكد أن “ملف الصحراء هو النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم، وهو المعيار الواضح والبسيط، الذي يقيس به صدق الصداقات، ونجاعة الشراكات”. وقال الملك “ننتظر من بعض الدول، من شركاء المغرب التقليديين والجدد، التي تتبنى مواقف غير واضحة، بخصوص مغربية الصحراء، أن توضح مواقفها، وتراجع مضمونها بشكل لا يقبل التأويل”. كان ذلك بمثابة إنذار للمتذبذبين ودرس للمترددين ممن يحاولون مسك العصا من وسطها. وبالفعل وصلت الرسالة إلى من يهمهم الأمر، وكان لزاما عليهم أن يحددوا مواقفهم بالشكل الذي يعطي الرباط آلية واضحة لتحديد مستوى العلاقات معهم.

◄ المغرب نجح بالفعل في أن ينتصر لنفسه ولحقوقه ولتاريخه وجغرافيته ودوره الحضاري، وهو ما بات يدركه العدو قبل الصديق

أثبت الملك محمد السادس بشكل حاسم ونهائي أن بلاده متمسكة بكل شبر من أقاليمها الصحراوية الجنوبية، فالمسألة بالنسبة إلى المغرب ليست تفاوضا على جزء من مخلفات الاستعمار كما يعتقد البعض، وإنما هي إصرار على حقوق تاريخية تؤكدها الجغرافيا وتكرّسها التضاريس وتدعمها الثقافة والحضارة والأصول والأنساب، حقوق غير قابلة للتنازل عنها أو المساومة عليها أو التفاوض بشأنها مع أيّ كان وقتما كان وحيثما كان.

وقد كان موقف المملكة واضحا على لسان وزير خارجيتها ناصر بوريطة عندما رد على فكرة تقاسم الصحراء مع الكيان الوهمي الانفصالي قبل أيام، بالتأكيد على أن “المغرب لم ولن يقبل حتى أن يبدأ في سماعها لأنها تتعارض مع الموقف المبدئي للمملكة المغربية، وموقف كل المغاربة بأن الصحراء مغربية وجزء لا يتجزأ من التراب المغربي”، كاشفا أن المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا كان قد طرح هذه الفكرة على الجانب المغربي خلال زيارته إلى الرباط في أبريل – نيسان الماضي، و”أن الوفد المغربي بيّن آنذاك أن هذه الأفكار مرفوضة وغير مطروحة نهائيا”. يشير ذلك إلى أن قوة الحجة المغربية تجعل الرباط في موقف غير قابل للمساومة على الحقوق المشروعة، وغير المستعد لمناقشة الأفكار والمبادرات المفلسة التي تجاوزها الزمان ولم يعد لها أيّ مؤشر على الخارطة الجيوسياسية.

شدد بوريطة على أن المغرب لا يفاوض على صحرائه بل “يتفاوض بشأن نزاع إقليمي مع بلد جار ينازع المغرب في سيادته على أرضه”، وقال إن بلاده كانت قد عبّرت عن الموقف نفسه في العام 2002، في إشارة إلى نفس الفكرة عندما جاءت من المبعوث الأممي آنذاك جيمس بيكر باقتراح من الجزائر التي لا يهتم نظامها إلا بمشروعها القديم الجديد وهو البحث عن منفذ نحو ساحل الأطلسي في سياقات الأطماع التوسعية التي لا تزال تراود نظام الجنرالات بعد أن انبنت عليها أسس كيانهم السياسي.

في 13 نوفمبر – تشرين الثاني 2020، حصل تطور ميداني أنهى أطماع النظام الجزائري في الوصول إلى الأطلسي عبر الصحراء المغربية، عندما تمكن الجيش المغربي من تطويق المجموعات المحسوبة على بوليساريو ودورياتها العسكرية المتواجدة بمعبر الكركرات، ثم إرغامها على الانسحاب دون التسبب في استهداف أيّ من عناصرها، لتعمد فرقه الهندسية إلى تمديد الجدار على محورين وعلى بعد عشرات الكيلومترات، وتنهي أيّ إمكانية لوصول عناصر بوليساريو المسلحة أو أيّ مخاطر أمنية أخرى إلى المنطقة الحدودية القريبة من ساحل الأطلسي والمشرفة على منطقة الكويرة الإستراتيجية. أدرك العالم آنذاك أنّ التدخل المغربي في الكركرات قطع الشك باليقين وأنهى رسم حدود المملكة نهائيا وإلى الأبد عند الحدود الموريتانية.

◄ المسألة بالنسبة إلى المغرب ليست تفاوضا على جزء من مخلفات الاستعمار كما يعتقد البعض وإنما هي إصرار على حقوق تاريخية تؤكدها الجغرافيا وتكرسها التضاريس وتدعمها الثقافة والحضارة والأصول والأنساب

فسح العاهل المغربي الملك محمد السادس المجال أمام دول منطقة الساحل الخمس، للاستفادة من إطلالة بلاده على المحيط، حيث، وباستثناء موريتانيا التي تتوفر بالفعل على ساحل ممتد على الأطلسي، سيصبح بإمكان بلدان مالي، النيجر، بوركينا فاسو، وتشاد الوصول إلى الواجهة التي وصفها الملك بأنها “بوابة المغرب نحو أفريقيا، ونافذة انفتاحه على الفضاء الأميركي”. وقال “نقترح إطلاق مبادرة على المستوى الدولي، تهدف إلى تمكين دول الساحل من الولوج إلى المحيط الأطلسي غير أن نجاح هذه المبادرة، يبقى رهينا بتأهيل البنيات التحتية لدول الساحل، والعمل على ربطها بشبكات النقل والتواصل بمحيطها الإقليمي”، وفق تقديره، مردفا أن المغرب “مستعد لوضع بنياته التحتية، في الطرق والموانئ والسكك الحديدية، رهن إشارة هذه الدول الشقيقة، إيمانا منا بأن هذه المبادرة ستشكل تحولا جوهريا في اقتصادها، وفي المنطقة كلها”.

جاء الموقف الفرنسي الداعم لموقف المملكة بخصوص وحدتها الترابية ليؤكد على جملة من الحقائق من بينها: أن المغرب اليوم هو نافذة الشمال على الجنوب، وبوابة أفريقيا الطبيعية والإستراتيجية، وصاحب الفاعلية الثقافية المؤثرة بين شعوب القارة السمراء، وهو القادر على حلحلة الكثير من الأزمات الإقليمية بما لديه من مفاتيح يدركها الراسخون في السياسة، كما أن طبيعة الهدوء والسكينة التي تمتاز بها المملكة تخفي وراءها قوة استثنائية قادرة على حسم المواقف بما يخدم مصالحها ويحقق أهدافها.

قديما قيل لا بد من صنعاء وإن طال السفر، من باب حب التبحر في العلم، والآن يمكن القول لا بد من الرباط وإن طال السفر، من باب حب التبحر في السياسة، فالبلد المتمدد على الأطلسي الملامس بجبينه عباب المتوسط، والملامس بروحه قبل قدميه العمق الأفريقي، نجح بالفعل في أن ينتصر لنفسه ولحقوقه ولتاريخه وجغرافيته ودوره الحضاري، وهو ما بات يدركه العدو قبل الصديق، ولكن الصديق يعلنها والعدو يكابر في الاعتراف بها، وتلك مشكلته.

9