لا أمل في شفاء العراق بقطاع صحي عليل ينشد العلاج

نظام الرعاية الصحية في العراق يعاني من أزمة بسبب نقص الدواء وغياب العاملين القائمين على الرعاية الطبية إضافة إلى استشراء الفساد في القطاع.
الثلاثاء 2020/03/03
أزمة مستعصية

يعيش القطاع الصحي في العراق على وقع أزمة مستعصية تفاقمت في السنوات الأخيرة في بلد لا يعرف الاستقرار لعدة أسباب تتنوع لكنها ترتبط ارتباطا وثيقا بالإرادة السياسية لحكام البلاد. ويعاني نظام الرعاية الصحية في العراق من عدة أمراض نخرت جسده كالنقص الدائم في الأدوية وعدم توفّر الطواقم الطبية بالشكل الكافي في جل المحافظات.

أحمد أبو العينين / ريد ليفنسون

البصرة (العراق)- تتراكم في العراق الذي يمر في الأشهر الأخيرة باضطرابات سياسية أفرزتها الاحتجاجات المطالبة بتغيير النظام الحاكم كافة أسباب الثورة على منظومة الحكم، خاصة أن أهم القطاعات الحيوية ومنها على وجه التحديد الصحة يمر بأحلك أزماته.

وتشير كل الدلائل استنادا على تصريحات العشرات من الأطباء والمرضى والمسؤولين وبيانات منظمة الصحة العالمية وحكومة بغداد إلى أن قطاع الرعاية الصحية يشهد انهيارا كبيرا.

ويقول هشام عبدالله إنه ترك وظيفته لرعاية ابنه مصطفى (14 عاما) وباع بيته وبعض الأغراض القيمة التي تملكها عائلته لتسديد ثمن العلاج بمستشفى سرطان الأطفال في البصرة. ولأنه لا يتمتع بأي تأمين صحي فهو يقدر أنه أنفق 120 ألف دولار على الأقل على شراء أدوية من السوق السوداء وعلى رحلات إلى مستشفيات في الخارج. واضطرت أسرته المكونة من خمسة أفراد للانتقال للعيش مع شقيقه.

ويعاني نظام الرعاية الصحية في العراق من أزمة. فثمة نقص في الدواء وفي أعداد العاملين القائمين على الرعاية الطبية. ويعمد الأطباء للهرب إلى الخارج بالآلاف كما أن متوسط الأعمار ومعدلات وفيات الأطفال أقل بكثير منها في باقي أنحاء المنطقة.

علاء علوان: الفساد الإداري في العراق يشكل عقبة أمام قطاع الصحة
علاء علوان: الفساد الإداري في العراق يشكل عقبة أمام قطاع الصحة

خلال الثلاثين عاما الماضية تعرض العراق للخراب بفعل الحروب والعقوبات الدولية والصراع الطائفي وصعود نجم تنظيم الدولة الإسلامية.

لكن حتى في أوقات الاستقرار النسبي ضاعت على العراق فرص توسيع نظام الرعاية الصحية وإعادة بنائه. ففي عام 2019، وهو عام شهد هدوءا نسبيا، خصصت الحكومة 2.5 في المئة فقط من موازنة الدولة البالغة 106.5 مليار دولار لوزارة الصحة. وهذا مبلغ ضئيل مقارنة بما يتم إنفاقه في دول أخرى بالشرق الأوسط. وفي المقابل حصلت قوى الأمن على 18 في المئة ووزارة النفط على 13.5 في المئة.

وتظهر بيانات منظمة الصحة العالمية أن الحكومة أنفقت خلال السنوات العشر الأخيرة مبلغا أقل بكثير على الرعاية الصحية للفرد من دول أفقر كثيرا، إذ بلغ نصيب الفرد من هذا الإنفاق 161 دولارا في المتوسط بالمقارنة مع 304 دولارات في الأردن و649 دولارا في لبنان.

وقال علاء علوان وزير الصحة العراقي في أغسطس الماضي “الوضع الصحي في العراق تراجع بشكل كبير جدا خلال العقود الثلاثة أو الأربعة الماضية. وأحد أسباب هذا التراجع، وليس فقط السبب الوحيد، هو عدم إعطاء أولوية من قبل الحكومات المتعاقبة للصحة في العراق”.

وأضاف “الصحة في العراق لا تعتبر أولوية. ولذلك ركزنا على المعطيات التي تشير إلى مدى إعطاء أولوية للقطاع الصحي في الموازنة الحكومية”.

واستقال علوان، الذي سبق أن شغل مناصب عليا في منظمة الصحة العالمية، من منصبه الوزاري في الشهر التالي بعد أن أمضى عاما واحدا في المنصب مستشهدا بفساد لا يمكن التغلب عليه وتهديدات من معارضين لجهوده الإصلاحية.

وتفجرت احتجاجات شعبية في بغداد وفي مناطق كثيرة من جنوب العراق بما فيها البصرة في أواخر العام الماضي وطالب فيها الآلاف بإصلاح النظام السياسي الذي يقولون إنه أهدر موارد الدولة ودفع بالمواطنين العاديين إلى صفوف الفقراء.

ويتنامى الضغط الشعبي على القيادات السياسية على كل المستويات، حيث يقول المدرس كرار محمد (25 عاما) الذي توفي أبوه بالسرطان “أنا هنا اليوم لأن أمي مريضة بالسرطان ولا تستطيع أن تحصل على أبسط علاج”.

ازدحام لا يطاق

كان مصطفى يرقد على سرير في غرفة المعيشة ببيت عمه في البصرة وكان ألم صامت يعتصر وجهه. ولم يكن بمقدوره الشعور بالراحة في رقاده بسبب الورم المصاب به في ظهره.

بدأت مشكلة مصطفى بألم بسيط في الساق في 2016. وأساء أطباء تشخيص حالته في البداية فقالوا إنه مصاب بالتهاب في المفاصل.

عبدالأمير حسين: لا يوجد العدد الكافي من الأطباء والمستشفيات في العراق
عبدالأمير حسين: لا يوجد العدد الكافي من الأطباء والمستشفيات في العراق

وعندما تم اكتشاف الورم كانت حالته الصحية قد تدهورت. وقال الأطباء إنه مصاب بنوع من السرطان يصيب الأنسجة الضامة. وبدأ مصطفى رحلة العلاج في المستشفى التخصصي للأطفال في البصرة.

يعاني المستشفى من عجز كبير في الغرف. إذ تزدحم كل غرفة بستة أسرّة كلها مشغولة. ويتمثل تخلف العراق عن باقي المنطقة في معدل أسرة المستشفيات إذ يبلغ 1.2 سرير فقط لكل ألف نسمة.

وتعد البصرة أكبر مدن الجنوب، وهي العاصمة الاقتصادية للعراق وتصدر من النفط ما يوفر 90 في المئة من إيرادات الدولة. غير أن نظام الرعاية الصحية، ووفقا لما يقوله أطباء ومرضى في المدينة وحسب تحليل لبيانات وزارة الصحة، يعاني من نقص مزمن في التمويل ويديره فريق مرهق من الأطباء والممرضات.

وتوصلت وكالة رويترز إلى أن نصيب الفرد من الإنفاق الحكومي على الرعاية الصحية في البصرة بلغ 71 دولارا في المتوسط بين عامي 2015 و2017 أي نصف المتوسط العام على مستوى البلاد.

وقال علي العيداني المدير الإداري إن المستشفى يحتاج إلى أكثر من أربعة أمثال ما حصل عليه من أموال من وزارة الصحة في 2019 للعمل بكفاءة. ولا يوجد في المستشفى جهاز للمسح الذري الذي يستخدم للمساعدة في رصد أنواع معينة من السرطان وتشخيصها أو ما يكفي من أدوية السرطان.

ولتسيير العمل بالمستشفى خلال فترات نقص الأدوية يعمد العيداني إلى جمع تبرعات، الأمر الذي يزج به في مشكلات مع السلطات التي حققت معه عدة مرات في اتهامات بالفساد وفي كل مرة كان التحقيق ينتهي بمجرد تحذير.

مشكلة التمويل

تمنع اللوائح الحكومية التي ترجع إلى السبعينات من شراء معدات أو أدوية من القطاع الخاص. ويتعين علي الطبيب بدلا من ذلك استلام الأدوية مباشرة من وزارة الصحة في بغداد والتي لا تملك في كثير من الأحيان ما يكفي منها.

وقال العيداني إنه إذا اتبع اللوائح فسيموت الأطفال ببساطة. وهو يلجأ بدلا من ذلك لاستغلال ثغرة فيشتري الأدوية من إقليم كردستان الذي يتمتع بالحكم الذاتي وله وزارة الصحة الخاصة به ونظام تفتيش مواز على الأدوية.

وقال وزير الصحة السابق علوان إن نسبة تتجاوز 85 في المئة من أصناف الدواء على قوائم الأدوية الأساسية في العراق كانت إما موضع نقص في الإمدادات أو غير متوفرة على الإطلاق في 2018.

وتعد أدوية السرطان من أكثر الأدوية عرضة للتهريب لأسباب منها ارتفاع أثمانها. ويقول مسؤولون بجهات تنظيمية ومستوردون من القطاع الخاص إن بعض الشركات الدولية تتجنب إبرام تعاملات مباشرة مع الحكومة العراقية بسبب الفساد وعدم الاستقرار.

وسلم علوان بخطورة الفساد فقال “بكل صراحة أيضا قضية الفساد الإداري الموجود في العراق تشكل عقبة في هذا المجال”.

وتستورد الحكومة الدواء والمعدات الطبية من خلال الشركة العامة لتسويق الأدوية والمستلزمات الطبية المعروفة باسم كيماديا. وأصر مدير عام الشركة على أن العلاقة مع شركات الأدوية طيبة لكنه سلم بأن كيماديا شركة قديمة ولا تحظى بتمويل كاف وتفشل في كثير من الأحيان في تلبية الطلب.

في سبتمبر 2019 خرج المئات من الأطباء إلى شوارع بغداد للمطالبة بتحسين أجورهم وظروف العمل
في سبتمبر 2019 خرج المئات من الأطباء إلى شوارع بغداد للمطالبة بتحسين أجورهم وظروف العمل 

وقال مدير عام الشركة مظفر عباس الذي استعان به الوزير السابق علوان لتطوير العمل بها “تأخير إقرار الميزانية ممكن أن يؤثر على تأخر الدراسة لأنه لا يجوز البدء بالدراسة والإحالة ما لم تكن هناك تغطية مالية”. وأضاف “واحد من العوامل التي تسبب تأخير الدراسة عندما يكون هناك تذبذب في الاحتياج أو تغيير في الاحتياج يؤثر على الدراسة”.

وتمتلئ الصيدليات بالأدوية المهربة التي ربما تجاوز بعضها تاريخ الصلاحية أو أصبح استخدامه غير مأمون العواقب. لقد كان العراق ثاني دولة بعد مصر تدخل مرحلة تصنيع الدواء، أما الآن فيقف مصنعان كبيران مملوكان للدولة شاهدا على مدى الانحطاط الذي حل بالصناعة.

ويقع المصنع الأول في الموصل وقد لحق به الدمار بسبب سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية على المنطقة. أما الثاني فيقع في سامراء شمالي بغداد ويعمل بمعدات عتيقة. وتتولى عاملات تجميع مستلزمات علاج البثور بأشرطة مطاطية بينما يتولى عمال من الرجال تعبئة العلب يدويا.

وتأسست الشركة العامة لصناعة الأدوية قبل 50 عاما وهي تملك المصنعين. وقال رئيس مجلس إدارتها ليث عبدالرحمان في مكتبه بسامراء إن الشركة كانت تنتج 300 صنف. أما الآن فهي لا تنتج سوى حوالي 140 صنفا وكلها من الأدوية الأساسية وليس من بينها أدوية ضرورية لإنقاذ المرضى المشرفين على الموت.

وفي عام 2019 كانت الشركة تنتج أدوية أقل بنسبة 80 في المئة مما كانت تنتجه في 2002 قبل الاجتياح الذي قادته الولايات المتحدة للبلاد. وتوجد 17 مصنعا مملوكة لمستثمري القطاع الخاص، لكنها تنتج أيضا أدوية أساسية بتكنولوجيا عفا عليها الزمن.

ويقول مهنيون إن الفساد والضرائب العالية وشبكة الكهرباء التي لا يمكن التعويل عليها وسوء حال سلسلة الإمداد وسوء الأوضاع الأمنية كل ذلك تسبب في تأخر الصناعة لعشرات السنين.

وقال عباس إن الشركات العراقية تغطي أقل من ثمانية في المئة من احتياجات السوق. وتفتقر الشركات للمواد الخام والتكنولوجيا والمعدات. وأضاف “تاريخ صناعة الأدوية في العراق هو من أقدم الصناعات في المنطقة وفي الوطن العربي، حيث كان معمل أدوية سامراء يعتبر الرائد في المنطقة، أظن أنها ثاني دولة عربية دخلت مجال صناعة الدواء بعد مصر”.

ويبلغ عدد الأطباء والممرضات في العراق مقارنة بعدد السكان أقل بكثير من دول أخرى، بل إن عددهم أقل بكثير من دول أفقر مثل الأردن وتونس.

تشير كل الدلائل استنادا على تصريحات العشرات من الأطباء والمرضى والمسؤولين وبيانات منظمة الصحة العالمية وحكومة بغداد إلى أن قطاع الرعاية الصحية يشهد انهيارا كبيرا

في عام 2018، كان العراق لديه 2.1 ممرضة وقابلة لكل ألف نسمة مقارنة مع 3.2 في الأردن و3.7 في لبنان، وذلك وفقا لتقديرات كل بلد. وبلغ عدد الأطباء 0.83 فقط لكل ألف نسمة أي أقل بكثير من الدول المماثلة في الشرق الأوسط. فقد بلغ العدد في الأردن على سبيل المثال 2.3 طبيب لكل ألف نسمة.

وتقول نقابة الأطباء العراقية إن 320 طبيبا على الأقل سقطوا قتلى منذ عام 2003 وأن الآلاف من غيرهم تعرّضوا للاختطاف أو التهديد. وأضافت النقابة أن حوالي 20 ألف طبيب، أي حوالي ثلث الأطباء المسجلين في العراق البالغ عددهم 52 ألفا، فروا من البلاد منذ التسعينات.

وقال عبدالأمير حسين نقيب الأطباء العراقيين “ليس هناك العدد الكافي من الأطباء والمستشفيات للتعامل مع عدد المرضى”. وقد أدت أزمة الرعاية الصحية إلى انهيار الثقة بين الأطباء والمرضى. فليس غريبا أن تعتدي عشيرة مريض على الطبيب إذا ما ساءت الأمور خلال العلاج.

ويبلغ متوسط أجور الأطباء في العراق ما بين 700 و800 دولار في الشهر فقط ويبحث كثيرون عن وظائف إضافية في القطاع الخاص لزيادة دخلهم المنخفض. ويعاني معظم الأطباء الشبان من ضغوط العمل الشديدة ويعمل الواحد منهم ورديات تتراوح بين 12 و16 ساعة كل يوم. وقال أطباء إن بعض زملائهم يقبل الرشوة لكي يكتب للمريض أدوية معينة.

ويحيل كثيرون من كبار الأطباء المرضى الذين يفحصونهم في الصباح في المستشفيات العامة إلى عياداتهم الخاصة لزيادة دخلهم. ويقول أطباء ومرضى ودعاة الحق في الرعاية الصحية إن هذا يتسبب في تآكل ثقة المرضى في القطاع العام. ويتأثر أداء الأطباء بطول ساعات العمل، الأمر الذي يؤدي إلى المزيد من الأخطاء ويقود بدوره إلى المزيد من الاعتداءات.

ويشتري بعض الأطباء الدواء لمرضاهم بمالهم الخاص إما انطلاقا من الالتزام الأخلاقي أو خوفا من الاعتداء عليهم. وهذا التصرف مخالف للقانون لأن الأدوية التي تعطى للمرضى في المستشفيات يجب أن يكون مصدرها صيدلية المستشفى. وربما يؤدي هذا التصرف إلى دخول السجن.

وفي سبتمبر 2019، خرج المئات من الأطباء إلى شوارع بغداد للمطالبة بتحسين أجورهم وظروف العمل وذلك قبل أيام فحسب من احتجاجات واسعة النطاق اجتاحت البلاد مع تفجر الغضب من تدهور الخدمات العامة والفساد في الأوساط الرسمية. وشوهد أطباء شبان وهم يعالجون المحتجين الجرحى في ساحة التحرير بوسط العاصمة العراقية.

نقص التجهيزات

أداء الأطباء يتأثر بطول ساعات العمل الأمر الذي يؤدي إلى الأخطاء
أداء الأطباء يتأثر بطول ساعات العمل الأمر الذي يؤدي إلى الأخطاء 

في مواجهة سوء تجهيز المستشفيات ونقص الأدوية في البلاد ينفق كثيرون من مرضى السرطان الآلاف من الدولارات طلبا للعلاج في الخارج في لبنان والهند والأردن وإيران وتركيا.

وقال عامر عبدالسادة المشرف على برنامج الإخلاء الطبي في العراق إن العراقيين أنفقوا 500 مليون دولار على الرعاية الصحية في الهند في العام 2018 وحده. وأضاف أن الحكومة الهندية أصدرت في ذلك العام نحو 50 ألف تأشيرة طبية للعراقيين.

وحاورت رويترز 11 مريضا بالسرطان بعضهم يتعافى من المرض وقالوا إنهم أنفقوا الآلاف من الدولارات على علاج السرطان في الخارج.

وأنفق كثيرون منهم مدخرات العمر وعادوا ليكتشفوا أن علاجات المتابعة الطبية غير متوفرة. وينفق أمثال أسرة عبدالله التي لم يعد بوسعها تدبير تكاليف السفر للخارج ما تبقى لديها من أموال على الأدوية في السوق السوداء.

وتلجأ وزارة الصحة العراقية إلى رجال الأعمال للمساعدة في تحمل أعباء تطوير المعدات والخدمات. وفي عام 2019، طبقت الوزارة إصلاحات للسماح لرجال الأعمال ممن ليست لهم أي خلفية طبية بامتلاك المستشفيات. ويقدر المسؤولون بقطاع الصحة أن القطاع الخاص أضاف 2000 سرير بالمستشفيات في العراق في الأشهر الستة الأولى من 2019 بزيادة نسبتها أربعة في المئة.

6