لارا بلدي فنانة بنت برجا للأمل وكتبت أجندة المستقبل

يمكن أن تتشكل الأسطورة من عناصر لا تنتمي إلى مكان بعينه. ذلك هو المكان الخيالي أو اللامكان الذي نعيش فيه في زمن أسطوري.
كل الأساطير تنبعث تفاصيلها من بين قدمي مسافر وحيد وغريب.
ذلك ما يمكن أن تكونه لارا بلدي، اللبنانية - المصرية التي تركت كل مدينة عاشت فيها أثرا منها على روحها.
ألهمتها المدن التي عاشت فيها موهبة التصوير. ولكنه تصوير من نوع مختلف يمكن أن نسمّيه بالتصوير الحي. ذلك لأنه يستمد قوته من الوثيقة والتركيب والنصوص واليوميات ومشاهد الرحلات وأفلام الفيديو.
مسافرة بذاكرة الصور
تواجه بلدي الحياة بصورة لا تشبهها بالرغم من أنها مقتطعة منها. حياة منتحلة أو حياة متخيلة. ليست هي الصورة الأجمل ولكنها الصورة التي تجمع ما بين الماضي والحاضر، ما بين التراث والواقع، ما بين اليومي والمتخيل.
هناك يتشكل عالمها مذكرا بمرجعياته الأسطورية. التراث الإسلامي والأيقونات المصرية والتصوير الشعبي واليوميات وما بين كل تلك المرجعيات يمر الزمن، نحن ضيوفه وحاملو أحلامه.
أعمال بلدي تتمتع بانتشار واسع محاط بعنصر الدهشة. تجمع بين عوالم متباعدة ومتناقضة غير أنها حين تسافر بين الأمكنة فإنها تخترق القشرة التي تفصل بين زمن وآخر
جالت العالم. لم تكتف بالنظر إليه واستلهامه حسيّا بل اخترقته كما يفعل الزمن. لم تقلقها هويتها التي هي مجموعة هويات. كان عليها أن ترى حياتها من جهات مختلفة في الوقت نفسه. ليست الذكرى هي الهدف. لم تبحث عن الصورة لتكون خزانة لانفعالاتها. لا تقيم بلدي في منطقة بعينها لكي تتعرّف على نفسها. إنها هناك مثلما هي هنا دائما. تلك سيرتها مع الزمن أو سيرة الزمن معها. لو أن الفنانة اكتفت بالتصوير لعرفنا أنها لا ترغب سوى أن تقبض على الزمن في لحظة واحدة غير أنها أحبّت الصور من غير أن تعتبرها هدفا. كانت تلك الصور مجرد وسائل للوصول إلى الضالة البصرية. العالم وهو في طريقه إلى التحرّر من شكله المادي الثابت ليغرق في سيولته.
تستعمل بلدي كل ما التقطته يدها عبر أسفارها من أشياء، تنعش ذاكرتها الجمالية التي تنحرف بتلك الأشياء عن وظائفها الأصلية لتكون جزءا من سيرة لن تكتمل.
فن تفاعلي ينطلق من الشارع
ولدت بلدي في بيروت عام 1969 وعاشت فيها وفي باريس ولندن قبل أن تستقر في القاهرة عام 1997. عام 2003 حصلت على زمالة من مؤسسة اليابان بطوكيو لدراسة أعمال المانغا والأنيميشن "الرسوم المتحركة" كما شاركت عام 2010 في برنامج إقامة في كراتشي بباكستان.
عام 2014 شاركت في دورة في المختبر الوثائقي المفتوح التابع لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بالولايات المتحدة كما كانت فنانة مقيمة في آرت أومي بنيويورك في العام نفسه. ومنذ عام 2016 تعمل محاضرة في برنامج معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في الفنون والثقافة، وهو مشروع تعاوني تفاعلي يهتم بتنظيم أرشيف رقمي للثورة المصرية في 2011.
وكانت قد بدأت في حفظ مقاطع فيديو وصور ورسومات على الجدران ومقالات، كلها تؤرخ للثورة وكانت مصادرها وسائل التواصل الاجتماعي.
كان الحراك السياسي الشعبي في ميدان التحرير ملهما لها في جمع لقطات تاريخية وخطب ورسوم ساخرة. يجمع أرشيفها بين الفن المعاصر والأشكال الجديدة للأفلام الوثائقية من خلال إقامة طريقة جديدة لأرشفة الأحداث التاريخية وتفسيرها. لذلك يمكن اعتبار أرشيفها نموذجا متقدما ومعاصرا للحفاظ على التوثيق الرقمي وليس مجرد تكريم للثورة المصرية. شيء من السياسة وشيء من الحراك الاجتماعي صنعا أرشيفا عملاقا صار مادة لمعارض فنية جاهزة يغلب عليها طابع التفاعل الحيوي. يجب ألاّ ننسى دائما أن بلدي هي مصورة في أساس علاقتها بالفن.
فكر ما بعد الحداثة وما يوليه من أهمية استثنائية للصورة المفكرة وهباها مكانة خاصة في موقع إبداعي مختلف. ذلك ما استجابت له بلدي بخفة وكأنه مس جانبا حساسا من وجودها
شاركت في معرض الصحراء برعاية مؤسسة كارتيه بباريس. كان ذلك المعرض لحظة الانطلاق بالنسبة إليها. بعد ذلك أقامت معرض صندوق الدنيا في القاهرة وأقامت عام 2002 معرض الفانوس السحري. في العامين اللاحقين تنقلت بين السويد والدنمارك وفنلندا وأقامت معارض هناك. "مذكرات المستقبل" هو عنوان معرضها في دبي عام 2010.
أما معرضها "الأمل" فقد أقامته في نيويورك. وفي عام 2009 تم تقديم "صندوق الدنيا" الذي هو عبارة عن المئات من الصور الممسوحة ضوئيا في معرض جماعي لمتحف كوينز وبعد سنتين قُدم في بينالي البندقية، ووصفه النقاد يومها بأنه "نسخة نسيج عملاقة من مجموعة صور مليئة تمثل بطلات وأبطال الحركة".
من الشرق الأوسط حتى الولايات المتحدة مرورا باليابان وأستراليا والدول الأسكندنافية نزولا إلى أوروبا الجنوبية تتمتع أعمال بلدي بانتشار واسع محاط بعنصر الدهشة. عالمها يجمع بين عوالم متباعدة ومتناقضة غير أنها حين تسافر بين الأمكنة فإنها تخترق القشرة التي تفصل بين زمن وآخر. لامكانها هو بمثابة رد فعل المكان إزاء تحرر الزمن من قيوده.
أما في جوهر عملها فإنها توثق. ويمكن اعتبارها عاملة أرشيف. غير أن فكر ما بعد الحداثة وما يوليه من أهمية استثنائية للصورة المفكرة وهباها مكانة خاصة في موقع إبداعي مختلف. ذلك ما استجابت له بلدي بخفة وكأنه مس جانبا حساسا من وجودها.
في "صندوق الدنيا" حضرت عاملة الأرشيف بثياب الفنانة. وكان لهذا الارتطام والتداخل أثره العظيم في خلق شخصية الفنانة التي وهبت التقنية الشعبية قوة رمزية معاصرة. منها أن الرسامة عادت طفلة وعاد متلقو أعمالها أطفالا. ومنها أن صورا وحكايات ورسوم حائط وهتافات ذهبت مباشرة إلى وحي الأسطورة. ومنها أن الفنانة وعدتنا بطريقة تفكير نافرة. الواقع وقد غدا نوعا من التفكير المتخيل.
قارئة فنجان متفائلة
وظفت عاملة الأرشيف في مشروعها الخيالي. هناك متعة تُستخرج من حياة عاشها الآخرون لتتحرر مصائرهم من شكلها التقليدي. بلدي هي نموذج للفنان الذي يحفر كما لو أنه عالم آثار يبحث عن الإثارة التي ينطوي عليها التكهن بالمستقبل. فالوثيقة بالنسبة إليها مهمة بقدر ما تشير إليه من وقائع مستقبلية. ويظل العالم مجالا للفرجة.
"برج الأمل" عرضته بلدي في الساحة الفخمة لدار الأوبرا المصرية وحازت بسببه الجائزة الكبرى لبينالي القاهرة الدولي. كان مبنى لا ينتمي إلى المكان غير أنه كان ينتمي إلى الأرض من جهة المواد التي أقيم بها ومن جهة الأصوات التي تنبعث منه وهي أصوات مصرية بأرقّ ما تملك من عذوبة تعبير وخصوصية في المعالجة. ذلك البرج يمكنه أن يكون دائما وثابتا ويمكنه أيضا أن يكون مؤقتا وزائلا. تلك فكرة يمليها التكوين في الفن المعاصر.
لقد استعانت بالثقافة الشعبية وهي ترسم خطوط علاقتها بالمستقبل.
رأيت عملها "مذكرات أو أجندة المستقبل" في الدوحة عام 2010 وهو العمل نفسه الذي عرضته في دبي في ما بعد باعتباره معرضا مستقلا. أليس من العادي أن نقرأ الفنجان ولا نرى شيئا أو نرى ما نحب باعتباره مصيرا؟
يمكننا أن نقول كل شيء الذي يمكن أن يقابله لاشيء وهو ما يصف مصيرنا باعتباره خطأً أو سلوكا مجانيا. نحن نقرأ في معجم غامض للغة لا نملك أن نفك مفرداتها. فكرة بسيطة صنعت منها الفنانة عملا فنيا بل معرضا يمكنها أن تعيد عرضه في أوقات أخرى. ذلك ما دأب على فعله فنانو ما بعد الحداثة الذين صارت بلدي واحدة منهم. وهي حين نالت جوائز عديدة باعتبارها فنانة، كانت بذلك قد انتصرت على قدرها. بدلا من أن توثق صارت تصنع أعمالا فنية. كانت قارئة فنجان متفائلة.