لاجئ سوري يبحث عن جده النمساوي على تخوم "قلعة الملح"

دمشق - يمكن اعتبار رواية “قلعة الملح” للكاتب السوري ثائر الناشف جسرا وجدانيا يربط بين رحلة الجدّ “شتيفان فالتر” إلى الشرق، ورحلة حفيده “سامي إسماعيل” إلى الغرب، ولو اختلفت الرحلتان فإنهما متشابهتان، إذ كل منهما كان فارا من شبح الحرب.
يتناول النص قصة اللاجئ السوري سامي إسماعيل في النمسا، وهو حفيد رقيب نمساوي فار من معركة ستالينغراد إلى سوريا، والذي ما إن يصل لاجئا إلى فيينا، حتى يجد نفسه أمام تحديات هائلة في حياته الجديدة، أقلها مسألة إتقان اللغة والاندماج في المجتمع الغربي، لكنّ شغفه في البحث عن مسقط رأس جده في بلدة قلعة الملح، فتح أمامه أبواب صراع الهوية على مصراعيه.
ولعل ما أوقد جذوة ذلك الصراع الخابي لسنوات خلت عمله الإنساني في رعاية المسنين والمحتاجين، إذ اضطر مرغمًا إلى العمل في ذلك المجال، على الرغم من دراسته للفلسفة في سورية وحصوله على درجة الماجستير، وهو ما أضفى ذلك الطابع الفلسفي على النص، من خلال الحوارات الفكرية العميقة التي راح يقودها مع المسنين الذين كان يرعاهم، وبشكل خاص مع جولد شتاينر، متجاوزا حاجز اللغة.
وما إن يباشر سامي عمله في رعاية كبار السن، حتى يتعرّف على مسن مصاب بمرض الرعاش، يدعى الدكتور يوهانس غولد شتاينر وزوجته السيدة غيرترود، وهما عالمان نفسيان ألمانيان يعيشان في مدينة فيينا النمساوية منذ زمن طويل، يتبادلان الثقة والانطباعات الإيجابية مع مُقدّم الرعاية منذ اللقاء الأول، فيسردان له قصتهما بعيد الحرب الثانية، فيما يسرد لهما الجزء المؤلم من حياته في سوريا والنمسا، إثر تفكّك عائلته وفقدان أطفاله في لبنان، فضلا عن حياة العزلة التي وجدها في خضم المجتمع الغربي.
أمَّا قصة جدّه الرقيب الفار إلى سوريا، والمُدوّنة في صفحات المُذكّرات التي جلبها معه من حلب، فما انفك يرويها للمسنّين بعدما وصل إلى طريق مسدود في المجتمع الجديد، سواء على مستوى علاقاته العاطفية الفاشلة مع النساء الأوروبيّات اللواتي تعرَّف إليهن، أو على مستوى علاقته الفاترة مع مواطني البلاد الذين لم يبدوا تجاهه أيّ نوع من الاهتمام، لا لكونه يحمل جزءًا من دمائهم، ولا لكونه رجلاً متعلّمًا، وهنا تبرز المعاناة التي يواجهها اللاجئون في المدن التي تستقبلهم ولكنها تتركهم دائما في الهامش وتحت ثقل العنصرية والنظرة الدونية.
تتعدد أصوات السرد في النص عبر تقنيات جديدة ظهرت جليا في انتقال السرد بين الراوي والبطل من جهة، وبين البطل والشخصيات الأوروبية التي توالى ظهورها تباعا في النص بحكم عمل سامي الاجتماعي. من جهة أخرى، فالراوي هنا “ثائر الناشف” لا يلبث أن يميط اللثام عن شخصيّة سامي، ثم يطلق العنان للبطل ليعرِّف بنفسه للقارئ، ويكشف له عن أعمق صراعاته الداخلية وما يواجهه في البحث عن مساحة تمنحه حرية مد جذوره وتفاعل هويته، بينما لا ينفك يبحث بشغف عن تاريخ جده المنسي.
سامي ليس مجرد لاجئ قصد أوروبا بغية الرفاهية، بل لينأى بنفسه عن حياة البؤس التي خلَّفتها سنوات إقامته الصعبة في حلب وبيروت جراء الحرب والأوضاع الصعبة التي فرضتها، ولكي يقف على حدود قلعة الملح مسقط رأس شتيفان فالتر، لكنه يُمنى بخيبة أمل أخرى أثناء لقائه بشقيق جده المُسنّ ديتمار فالتر الذي يُنكر درجة قرابته به لكونه لاجئًا، وهي خيبة لا تقلّ عن خيبة تخلّي شقيقه نجيب عنه.
لا تقدم الرواية وضع اللاجئ بشكل مأساوي استجداء للعطف وإنما ترسم ملامحه كما هي وهو يتنقل بين بيئة وأخرى، محاولا إثبات وجوده في هذا المكان الجديد، وساعيا إلى تأكيد انتمائه ولو بصلة الدم إليه، وهو ما لا ينجح فيه، وكأن قدر اللاجئ أن يبقى لاجئا دائم البحث عن جدارة لوجوده في بيئة قد تكون منحته الأمان الجسدي والملجأ من الموت والدمار الذي تنشره الحرب، ولكنها لا تسعى إلى ترميم ذاته ومعاملته كواحد منها، وهنا تبرز مشاكل اللجوء التي يجهلها الكثيرون.
جدير بالذكر أن رواية “قلعة الملح” للكاتب السوري ثائر الناشف صدرت مؤخرًا عن دار الزمان السوريّة للنشر والتوزيع؛ وتقع في مئتين وخمس صفحات.