لاجئو الشكولاتة ولاجئو فلسطين، حكاية الحلو والمُرّ

الانطباعات المتسرعة يمكنها أن تثير شيئا من مشاعر المرارة في النظر إلى أوروبا التي تفتح ذراعيها لاستقبال اللاجئين الأوكرانيين، وبين أوضاع اللاجئين الفلسطينيين في الدول العربية.
أوروبا تستقبل، في إطار تدابير مؤقتة، نحو 4 ملايين لاجي أوكراني، من مجموع نحو 10 ملايين مهجّر، بقي 6 ملايين منهم في مدن أوكرانية أخرى.
وكائنة ما كانت الخدمات التي تُقدم إلى اللاجئين الأوكرانيين، فإنها “خدمات فندقية” إلى حد بعيد، لا ينقصها الاكتظاظ، كما لا تتوفر فيها كل خدمات الرعاية المطلوبة.
لقد استقبلت الدول العربية الملايين من اللاجئين، وعاملتهم معاملة المواطنين، وقدمت لهم ما كانت تقدمه لمواطنيها، من دون تمييز. وفي بعض الحالات، في العراق على سبيل المثال، فإن التمييز ظل يذهب لصالح الفلسطينيين في التعليم والتوظيف.
وبالرغم من أن السنوات حوّلت اللجوء إلى توطين، إلا أنه بقي في معظم الأحوال من دون تجنيس، بقصد المحافظة على الهوية الوطنية الفلسطينية والحؤول دون تذويبها بتذويب مواطنيها. إنما باستثناء الأردن الذي منح اللاجئين الفلسطينيين جنسيات أردنية، حتى بلغ عدد الأردنيين من أصول فلسطينية نحو أربعة ملايين نسمة. وهو أمر ارتبط بوثوق مع سلسلة من مشاريع الحل التي كانت تقترح ضم الأراضي الفلسطينية إلى “إمارة شرق الأردن”. ولقد عرفت أزمة اللاجئين مشاريع حلول عديدة، جغرافية وسكانية، قبل أن يعلن العاهل الأردني الراحل الملك حسين في يوليو 1988 قرار الأردن “بفك العلاقة القانونية والإدارية بين الضفتين”، أو ما صار يُعرف بقرار “فك الارتباط”. وذلك تحت ضغط منظمة التحرير الفلسطينية التي بدأت من قبل ذلك الوقت بقبول مبدأ “حل الدولتين”، وهو ما كان يتطلب استقلالا سياسيا عن الأردن بالدرجة الأولى.
المنقلب الأهم جاء بعد تولي الرئيس محمود عباس السلطة، الذي اختار أن يفسد الملف نفسه، وليس قضية اللاجئين وحدها
لبنان يستضيف الآن بحسب أرقام وكالة الأونروا 469 ألف لاجئ فلسطيني مسجلين في قوائمها، بينما تعترف الحكومة اللبنانية بوجود 174 ألفا فقط، لأسباب تتعلق بالخشية من اختلال البنية الديمغرافية اللبنانية التي تقوم على توازنات طائفية سياسية تجعل من أيّ اختلال “قضية حساسة”.
كل الدول العربية الأخرى ظلت تستقبل لاجئين فلسطينيين، ولم تتوقف عند تقديم “خدمات فندقية” لهم. إذ عوملوا كضحايا، ولكن عوملوا كمواطنين أيضا، ولو من دون تجنيس. وحيث أن الجميع كانوا فقراء، بحيث لا يتم توزيع الشكولاتة على أطفالهم، كما فعلت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك مع الأطفال الأوكرانيين، إلا أن الحقيقة هي أن الشعوب العربية اقتسمت الرغيف مع اللاجئين الفلسطينيين. مما يُظهر أن هذه الأمة ما تزال حية، وأنها لم تقصر تعاطفها مع القضية الفلسطينية على الدعم المادي أو المعنوي، ولكنها قاتلت معهم، وهو ما لم تجرؤ أوروبا عليه.ويتجاوز تعداد اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، بحسب وكالة الأونروا، نصف مليون لاجئ، ويتوزعون على ست محافظات، إلا أن الكتلة الأكبر منهم توجد في مخيم اليرموك بدمشق.
ولقد استقبلت الفصائل الفلسطينية متطوعين من كل البلدان العربية، صار بعضهم قياديين في منظمة التحرير الفلسطينية، مثل قيس عبدالكريم (أبو ليلى) نائب رئيس الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، العراقي الأصل. والمقاتلون في صفوف الفصائل الفلسطينية من أصول عربية كثيرون ولم يتوفر إحصاء شامل لهم حتى الآن، إلا أنهم بعشرات الآلاف. أي أكثر بكثير من المتطوعين الأوروبيين الذين التحقوا للدفاع عن أوكرانيا ضد الغزو الروسي. وكاتب هذه السطور نفسه كان يقود فصيلا لمتدربين في معسكر الناعمة في بيروت قبل غزو العام 1982. والشخص الذي قام بتهريبه من العراق عام 1979 كان مقاتلا “فلسطينيا” من أصل عراقي، وعندما وصل إلى دمشق لجأ إلى مقر الجبهة الديمقراطية في دمشق. وذلك في دلالة غير فريدة ولا استثنائية على ارتباط مواطنين عرب كثيرين بفصيل فلسطيني أو آخر.
ولقد مرت عقود طويلة، كان اللاجئون الفلسطينيون هم الجالية الأكثر قبولا في الإقامة والتعليم والتشغيل، في دول الخليج العربية، من دون قيود تقريبا. الملكة رانيا العبدالله، ولدت في الكويت عام 1970، لأسرة فلسطينية.
قصارى القول، إن التضامن العربي مع الفلسطينيين لم يخفت ولم يتراجع. وحتى بعد أن انطوت صفحات التطلع إلى شن “حرب تحرير” بعدما أخذت منظمة التحرير الطريق من أوسلو إلى إقامة سلطة وهمية على بعض الأراضي الفلسطينية، فإن هذا التضامن بقي حيا. كما لم يتراجع بتوقيع اتفاقات السلام مع إسرائيل. السياسات تبدلت إلا أن “الشكولاتة” ظلت تتوزع فيما بين القلوب.
العامل الحاسم في النظر إلى أزمة اللاجئين الفلسطينيين، هو أن الدول العربية كانت هي التي حملت شعلة النار، وتبنت قضية التحرير بالرهان على جيوشها، وليس على تسليح الفلسطينيين أنفسهم، لا قبل نكبة العام 1948 ولا بعدها، ولا بعد حرب العام 1967، وصولا إلى حرب أكتوبر في العام 1973.
"القضية الوطنية الفلسطينية"، صارت هي التي تجلس في المقعد الخلفي، بانتظار اتصالٍ يتلقاه الرئيس من صديقه الجنرال بيني غانتس
المعركة كانت على هذا الأساس، معركة “عربية – إسرائيلية” بالدرجة الأولى وليست معركة “فلسطينية – إسرائيلية”.
السلاح الذي يتقاطر الآن على أوكرانيا يتعمد أن يحافظ على طبيعة المعركة بوصفها معركة “أوكرانية – روسية”. وهو خيار لم يؤخذ به عربيا حتى بعد أن تشكلت حركة “فتح” في الأول من يناير العام 1965 كحركة مقاومة مسلحة.
وبالرغم من أن الفصائل الفلسطينية ظلت تتلقى الدعم عسكريا وماديا، وهو جهد اشتركت به كل الدول العربية قاطبة، حتى أصبحت منظمة التحرير الفلسطينية “أغنى حركة تحرر وطني في العالم”، مما أفسدها بالفعل، وبالتالي امتلكت أسلحة تصدت بها لغزو إسرائيل للبنان عام 1982، إلا أن الرهان ظل قائما على استعدادات الجيوش العربية. وكان على الملايين من اللاجئين الفلسطينيين أن يتخذوا المعقد الخلفي، لينتظروا الفرج الذي قيل لهم إنه سيأتي، ولم يأت. وبقوا يلوحون بمفاتيح منازلهم في فلسطين.
السلطة الفلسطينية، تبنت المقاربة نفسها حيال لاجئيها، بمن فيهم الذين يعيشون في مخيمات الأراضي الفلسطينية. إنما بالمقلوب. عربيا، كان الرهان عسكريا. أما بالنسبة إلى سلطة أوسلو، فقد أصبح الرهان سياسيا. اللاجئون، في الشتات والداخل معا، بقوا في المقعد الخلفي، ينتظرون التوطين والتعويضات، ولم يعد القرار الدولي رقم 194 في ديسمبر العام 1948، سوى ورقة تفاوض غايتها الابتزاز السياسي تارة، والمساومة تارة أخرى.
قرار “فك الارتباط” الأردني كان بمثابة تسليم متأخر من جانب الأردن بأن تحمل منظمة التحرير الفلسطينية كل ملفات القضية بنفسها. وهو تسليم تلا تسليما عربيا سابقا عندما قررت القمة العربية، التي انعقدت في الرباط في أكتوبر 1974، بمنظمة التحرير الفلسطينية بوصفها “الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني”.
هذا القرار كان بمثابة “انتصار وطني” قاتل من أجله الرئيس الراحل ياسر عرفات، فسحب ملف القضية الفلسطينية من الطاولة العربية إلى طاولته الخاصة. ولهذا السبب صارت حرب أكتوبر 1973 هي آخر الحروب العربية – الإسرائيلية. ومن هنا بالذات، أصبحت المصالح الوطنية لكل دولة عربية، هي التي تحتل الأولوية. وبدأت مكانة “القضية المركزية” مسيرة التراجع. فالمُرّ صار حنظلا حتى على الفلسطينيين.
صحيح أن منظمة التحرير قلبت عالي الأرض سافلها عندما اختارت مصر أن توقع اتفاقيات كامب ديفيد عام 1978، إلا أنها لم تلاحظ ما فعلته هي نفسها عندما اختارت أن تسحب الملف. ثم أنها لم تعرف، من بعد ذلك، كيف تديره. فلا كسبت هذا، ولا ربحت ذاك.
المنقلب الأهم جاء بعد تولي الرئيس محمود عباس السلطة، الذي اختار أن يفسد الملف نفسه، وليس قضية اللاجئين وحدها.
“القضية الوطنية الفلسطينية”، صارت هي التي تجلس في المقعد الخلفي، بانتظار اتصالٍ يتلقاه الرئيس من صديقه الجنرال بيني غانتس.