"كيميا" ربيبة جلال الدين الرومي وزوجة شمس تبريز وبطلة رواية مصرية

الأديب المصري وليد علاءالدين يحاول التأسيس لنوع جديد من السرد الروائي مارس خلاله استقصاء في أحداث تاريخية لا علاقة لها بالحاضر.
الجمعة 2019/02/01
الرواية الاستقصائية

الزبير مهداد

لا يتوقف الكتّاب في العالم عن استلهام الشخصيات التاريخية في الكتابة الروائية. وتشغل الشخصيات الصوفية كجلال الدين الرومي وشمس الدين التبريزي ومحيي الدين بن عربي وغيرهم موقعا بارزا في هذا السياق. الكتّاب العرب، بدورهم انتبهوا إلى هذا النزوع، فظهرت في السنوات العشرين الأخيرة أعمال روائية نحت هذا المنحى.

لا يتوقف الأديب المصري وليد علاءالدين عن مفاجأة القراء بجديده، لقد كتب في المسرح فأبهر وأجاد، وخاض غمار السرد بروايته “ابن القبطية” فلقيت قبولا حسنا من القراء، وترحيبا واسعا من النقاد والدارسين. وها هو يصدر مع معرض القاهرة الدولي للكتاب روايته الجديدة “كيميا” التي استوحى اسمها من الجارية التي حملت الاسم نفسه، وتربت في حضن مولانا جلال الدين الرومي في قونية، وتزوجت بصديقه شمس الدين التبريزي، وتوفيت في ظروف غامضة، وكانت موضوعا لأعمال روائية كثيرة، منها بنت مولانا التي ألفتها الكاتبة البريطانية مورل ميفروي وترجمها الشاعر محمد عيد إبراهيم، وقرأها وليد قبيل رحلته إلى تركيا.

هذه الرواية تستمد مادتها من وقائع رحلة تمت عام 2006، حين كلفه “المركز العربي للأدب الجغرافي – ارتياد الآفاق” بزيارة مدينة قونية في تركيا ضمن بعثة ثلاثية تضم أيضا الروائي السوري خليل نعيمي والشاعرة المغربية ثريا إقبال، لأجل المشاركة في الاحتفال بمرور 800 عام على وفاة المتصوف مولانا جلال الدين الرومي، وكان يتعين على كل واحد من الثلاثة توثيق رحلته التي تتخذ خطا وسبيلا خاصا مختلفا عن الآخريْن، وذلك ضمن المشروع العربي الفريد الذي يعنى بالأدب الجغرافي العربي، والذي يشرف عليه وعلى تلك البعثة الشاعر نوري الجراح.

فهذه الرواية في الأصل تقرير عن الرحلة المذكورة، لكنها ليست تقريرا عاديا. فالمؤلف تسلح قبل الرحلة بقراءات عن التصوف وعن مولانا جلال الدين الرومي، منها رواية بنت مولانا المذكورة التي أوقعته في فخ فتاة اسمها كيميا، وقصة حياتها الشديدة العذوبة والقسوة في آن، ما جعله يبحث عن مولانا الرومي والدرويش الأكبر شمس الدين التبريزي، ودورهما الحقيقي في قتل كيميا وإخفاء جثتها. فهذه الرواية ليست تقريرا صحافيا يوثق الرحلة فحسب، ولا هي محض خيال، إنما تجمع بين الصفتين، وهذا هو سر روعتها.

الحكاية والرواية

 الرواية تتأسس على حكاية الزيارة، وهي ركنها الأساس، لذلك لا يتوانى وليد عن ذكر شخصياتها بأسمائها الحقيقية، كالجراح وإقبال ونعيمي، بشكل صريح من دون مواربة أو كناية، ما يفاجئ القارئ منذ بداية السرد لحد الصدمة، لأنه أمر غير مألوف في عالم السرد الروائي العربي.

الرواية تتأسس على حكاية الزيارة، وهي ركنها الأساس، لذلك لا يتوانى وليد علاءالدين عن ذكر شخصياتها بأسمائها الحقيقية

وإلى جانب ذلك، سرد الكاتب كثيرا من تعليمات الجراح، والرسائل المتبادلة بينهما، وذكر الخطة المتفق عليها حول الرحلة، ومساراتها، وأحداثها بشكل صادق ودقيق، وهي أحداث ووقائع غير متخيلة. وإمعانا في الدقة والأمانة في السرد، لا يجد الروائي غضاضة في توثيق الكثير من المعلومات التي أوردها، بذكر مراجعها في الهامش بدقة.

 إلى جانب هذه الشخصيات الحقيقية، نجد شخصيات متخيلة، أهمها كيميا وهي الشخصية المحورية، بطلة الرواية، التي استعارها من رواية بنت مولانا، فقرر اغتنام فرصة الرحلة إلى قونية ليجري أبحاثا دقيقة حول شخصيتها، وظروف حياتها، وأسباب وفاتها، ومكان دفنها.

كيميا الباهرة

 شخصية كيميا استعارها الكاتب من مورل ميفروي، التي استعارتها بدورها من أليف شافاك، مؤلفة رواية “قواعد العشق الأربعون”، التي تستلهم وقائعها من حياة مولانا جلال الدين الرومي، حيث حضرت شخصيات كيميا والرومي وشمس وعلاء وغيرهم، ولأن هذه الشخصية على أهميتها لم توفها شافاك حقها من العناية، قامت الروائية مورل ميفروي باستعارة هذه الشخصية في روايتها، لتسلط عليها المزيد من الضوء، فتتبعتها ورصدت مسارات حياتها، حتى وفاتها الغامضة.

 ورغبة في كشف الغموض حول هذه الوفاة، وعلاقتها الأكثر غموضا بشمس، قام الروائي وليد علاءالدين بدوره باستعارة الشخصية مجددا، وجعلها عنوان روايته ومحورها، فرواية “كيميا” تشكل إلى جانب الروايتين “قواعد العشق الأربعون” و”بنت مولانا” ثلاثية رائعة وهائلة، تنطق بأسرار العشق الصوفي الساحر، ومتاهات العلاقات الغامضة، ودلالات الرموز والعلامات.

كيميا تتجسد في كل الإناث. بل في كل شيء يصادفه الكاتب؛ في الطيور، في الأزهار، في الأشخاص، وغير ذلك.

 بطلة الرواية “كيميا” مرت بظروف قاسية، بعد ميلادها ونشأتها في كنف أسرتها التي تتألف من أب مسلم وأم مسيحية، قام أبوها بإهدائها إلى مولانا، لتواصل حياتها في كنفه، حتى لا ترسلها أمها إلى الدير، ومولانا لم يكتف بقبولها في كنفه، بل قام بدوره بإهدائها إلى صديقه شمس، مضحيا بحب ابنه علاءالدين للجارية، فعاشت كيميا حياتها في الظل حتى توفيت أو قتلت، وتم تغييب جثتها، فلم تحظ بقبر كسائر الموتى.

الكاتب والقرين

وشخصية علاءالدين ولد، الذي انبعث من رماده، وأصبح قرينا للسارد، ملازما له في حركاته، موحيا إليه بالكثير من الأفكار والأشياء والتفاصيل. علاءالدين ولد، ابن مولانا الرومي، تربى مع كيميا ونشأ معها طفلا، اعتنى بها ورعاها في عينيه وقلبه بأمر والده، فأحبها شابا، لكن والده حرمه منها إمعانا في تعذيبه وشقائه، هذا الشاب المفعم بالحيوية، متردد عاجز عن مواجهة والده الرومي تقديسا له، أصبح في الرواية قرينا للكاتب، يوحي إليه بأشياء شتى، يحادثه، يوجهه نحو مسارات، ويملي عليه أوامر، وقد يطارده أيضا، إنه لا يكفّ طيلة الرواية عن تتبع وليد وتوجيه الرسائل له، بل يقرأ أفكاره.

 يتماهى المؤلف مع شخصية علاء الدين ولد، فيصعب عليه أحيانا وضع حدّ يفصل ذاته عن قرينه. يتصاعد الحدث حتى يشتد الصراع بين القرينين أحيانا، فيطارده ويأمره بالرحيل بعد أن يتوغل في البحث عن كيميا.

تبدأ الرواية من غرفة في فندق تركي بأنقرة، في موسم بارد، وصلها الكاتب توّا من أبوظبي، لإنجاز المهمة الصحافية الموكولة إليه.

رحلة صوفية

الرواية مزيج من الواقع والخيال
الرواية مزيج من الواقع والخيال

 في الصفحات الأولى من الرواية، يبسط الكاتب أمام القارئ أمرين اثنين هامين، بل يعدّان مفتاحا لقراءة الرواية وفهمها، وهما: الحلم؛ يتحدث المؤلف عن الحلم، وأهميته في حياته، وعن قدراته على الحلم، ومهاراته في التحكم في أحلامه، واصطيادها وولعه بتوثيقها، ويشير إلى أن الفاصل بين الحلم والحقيقة خيط دقيق جدا، إلا أنه يؤكد للقارئ أن ما حصل في قونية لم يكن حلما عاديا، بل كان شيئا آخر، من الصعب معرفة كنهه.

تعلقه بكيميا؛ الشخصية الروائية، يشرح تأثره البالغ بحكاية كيميا التي قرأها في رواية “بنت مولانا” قبيل حلوله بتركيا.

وفي الغرفة، وابتداء من اليوم الأول، ستتوالى الأحداث الغريبة في الوقوع ومحاصرة الكاتب. في هذه الغرفة تشكل المرآة قطعة أثاث هامة، طيلة أحداث الرواية، وهي التي ستنقله إلى عوالم أخرى، وسيجد رسائل علاءالدين مدونة لها، وهي التي يتعين عليه فك ألغازها. فالمرآة بوابة سحرية بين عالم الحقيقة وعوالم موازية أخرى سحيقة، هذه المرآة تبدو فيها خيالات أخرى، وأحيانا تعكس صورة غير الصورة التي يحب أن يبدو السارد عليها، ولعلها تبعث صورة غابرة جدا، أو مغبرة.

 من إسطنبول، سينتقل إلى قونية، تنفيذا لبرنامج الرحلة، حيث سيحضر جلسات السماع التي يديرها دراويش المولاوية برقصاتهم وحركاتهم الطقوسية البديعة، وفي قونية سيشرع في البحث عن كيميا ومصيرها، ومنها ينتقل إلى أنقرة ويتجول في أسواق البازارات ودكاكين بائعي التحف والتذكارات السياحية، ومنها يسافر إلى أق شهر، لزيارة ضريح نصرالدين خوجة، المعروف في البلاد العربية باسم جحا، ومنها إلى قونية، ثم إسطنبول، التي يمتطي فيها طائرة ترجعه إلى موطن إقامته بأبوظبي، وخلال كل أشواط الرحلة، ظلت فكرة وشبح كيميا تلازمانه دوما.

 وخلال تجواله ستظهر له ثلاث رؤى قوية ومؤثرة: الرؤيا الأولى سيلتقي فيها بكيميا التي ستتمثل له في فتاة راعية ماعز، والرؤيا الثانية، ستتجسد له روح كيميا في حمامة ترقص في سماء المسرح الذي نظمت فيه فعاليات حفل إحياء ذكرى مولانا جلال الدين الرومي، دون أن تتمكن الكاميرا التي نصبها من التقاط أي صورة لهذه الروح المحلقة، لأن الحمامة ترمز للروح.

 والرؤيا الثالثة ستتجلى له كيميا وأمها في أحد جبال إسطنبول، حيث سيدور حوار هام حول الأديان والتسامح. أفلح وليد إلى حد بعيد في شرح جو التعددية الثقافية والتعايش الديني الذي كان نمط حياة في عصر جلال الدين الرومي، الصوفي المسلم الذي ينحدر من أصول أفغانية وفارسية وتركية، لم يجد حرجا في الارتباط بزوجات اختلفت أديانهن ما بين الإسلام والمسيحية والزرادشتية والبهائية.

رواية استقصائية

 مع التزام الكاتب بالواقعية والصدق الأدبي خلال الحديث عن شخصياته الحقيقية، ومسار رحلته، وما لقيه فيها، ومَن التقاهم خلالها، فقد تصرف بشكل مبدع في اختلاق شخصياته الأخرى التي استعارها من رواية “بنت مولانا”، فرسم معالمها وحدد صفاتها المادية، وصنع صراعاتها النفسية، وخلق لها سياقات في سير الأحداث، والتأثير في مجرياتها.

 فهناك شقّ تعامل معه الكاتب بتجرد وصدق وأمانة تقتضيها شروط العمل الصحافي، تلزمه بذكر مصادره، ونقل الأقوال بدقة، ووصف الأحداث بصدق، دون التأثر بتوجهاتها أو السعي إلى التأثير فيها.

 وهناك شقّ ثان فني متخيل، أبرز فيه المؤلف مهارته في وصف سفر خيالي تخلص فيه من شَرْطَيْ الزمان والمكان، حيث كان ينتقل بين الفينة والأخرى من غرفته بالفندق إلى فضاءات وهمية أخرى، تستحضر الفضاءات التي كانت تتردد فيها كيميا، فيعود بخياله إلى 800 سنة سابقة، ويتجول في مراع وجبال، ليقدم صورا في منتهى الدقة والجمال عن ظروف حيات كيميا، صورا تختلف برموزها وشخصياتها وأمكنتها وثقافتها عن الحاضر الذي يعيشه الروائي.

الرواية مزيج من الواقع والخيال، على الرغم من ارتفاع سقف الواقع كثيرا في الرواية، فإن سقف الخيال أيضا لم يقلّ عنه ارتفاعا، وهذا سر قوة الرواية. واقع عاشه الروائي بحالات شعورية مختلفة، سافر فيها خياله بعيدا عن واقعه وارتباطاته.

إننا أمام نوع جديد من السرد الروائي، نوع يمكن أن أطلق عليه اسم “الرواية الاستقصائية”، مارس خلاله الكاتب استقصاء في أحداث تاريخية لا علاقة لها بالحاضر، ولكنها تلقي بظلالها على نفسيته، فنبش في التاريخ والتصوف والجغرافيا، وسيرة الأشخاص، فقرأ، وحقق، ودقق، وحاور الأشخاص كشفا لحقيقة موت كيميا ومصيرها.

15