كيف نفسر غياب النساء في مجال النقد الأدبي العربي

المرأة العربية قديما حرمت بشكل واضح من الدخول إلى مجال النقد الأدبي تحت صوت الإرهاب بالتقاليد الذكورية.
الأحد 2024/05/19
بنت الشاطئ عائشة عبدالرحمن أولى الناقدات العربيات

لم أقرأ شيئا في نقدنا العربي القديم عن ناقدة تفردت بشيء مثلما أقرأ عن نقاد رجال أمثال ابن سلام الجمحي وابن قتيبة والآمدي والقاضي الجرجاني وعبدالقاهر الجرجاني وغيرهم، وما قرأته لا يعدو أن يكون ملاحظات عابرة تنسب إلى امرأة في موقف معين مثل أم جنْدب زوجة امرئ القيس الشاعر الجاهلي حين حكمت لعلقمة بن عبدة (الفحل) بأنه أشعر من زوجها، أو مثل موقف الخنساء مع النابغة الذبياني وحسان ابن ثابت.

خلت كتابات النقاد وأصحاب التراجم من ذكر شيء عن كتابات النساء في النقد الأدبي، ولنذكر على سبيل المثال الكتاب الذي توجه مباشرة إلى بلاغات النساء لابن طيفور (204 – 280 هـ) فإنه لم يذكر شيئا عن النقد الأدبي وإنما توجه إلى ذكر الطرائف والملح والنوادر المتعلقة بالنساء بالإضافة إلى أشعار النساء في الرثاء والمدح والتحريض على الحروب.

كيف يمكن أن نفسر هذا الغياب للنساء في مجال النقد الأدبي؟

◄ المغامرة التي نفذها طه حسين بالاتفاق مع لطفي السيد هي دخول الفتيات الجامعة رغم أنف الحكومة وتقاليد المجتمع، أنتجت الناقدة الأولى في العالم العربي، وأتت المغامرة أكلها فكانت بنت الشاطئ عائشة عبدالرحمن

النقد الأدبي في التصورات العربية القديمة هو مجال للحكم بالقيمة على أعمال الأدب، ومعرفة الجيد من الرديء، والنساء في تلك التصورات تخضع لتقاليد ذكورية، تضع الرجل دائما في مرتبة أعلى، وتنسب إليه بطريقة غريبة كل الفضائل الإنسانية، وتنزع عن المرأة أية فضيلة أو حسن، فكيف يمكن للمرأة أن تصدر حكما قيميا على الأدب وهي منقوصة الكمال، ويحاط بها السوء من كل جانب، ولهذا السبب عينه لم تجلس المرأة على منصة القضاء والحكم بين الناس.

 وحسبي أن أشير في هذا السياق إلى ما رواه ابن قتيبة، إمام أهل السنة والجماعة، في كتابه “عيون الأخبار” تحت عنوان “باب مساوئ النساء”: “عاقب الله المرأة بعشر خصال: شدة النفاس، وبالحيض، وبالنجاسة في بطنها وفرجها، وجعل ميراث امرأتين ميراث رجل واحد، وشهادة امرأتين كشهادة رجل، وجعلها ناقصة العقل والدين لا تصلي أيام حيضها، ولا يسلم على النساء، وليس عليهن جمعة ولا جماعة، ولا يكون منهن نبي، ولا تسافر إلا بولي”.

هذه المقولات تلبس الحق بالباطل والباطل بالحق، فالصفات البيولوجية للمرأة ليست عقابا لها، كما أن الأمور الشرعية المتعلقة بالميراث والشهادة والصلاة لا تعني إنقاصا من قدرها بأي حال من الأحوال، فهذه المقولات تجتهد في ترسيخ صورة مشوهة عن المرأة، وتضع المرأة في إطار معين لا يمكن لها أن تتجاوزه. وإذا تأملنا ما قدمتْه المرأة العربية من أشعار في العصور الكلاسيكية نجد أنه ينحصر في فنون معينة، وندرك لماذا لم تقف المرأة الشاعرة على الأطلال، أو تذكر الحبيب، أو تتغزل برجل تعشقه مثلما يفعل الرجال، فلو فعلت المرأة الشاعرة ذلك ربما ينظر إليه (أو ينظر إليه فعلا) على أنه نوع من الخروج على التقاليد والآداب العامة، والاستخفاف بأبجديات اللياقة والعرف.

لقد تم حرمان المرأة العربية قديما من الدخول إلى مجال النقد الأدبي تحت صوت الإرهاب بالتقاليد الذكورية، وتم إقناع المرأة بأنها غير مؤهلة لهذا النوع من النشاط لأنها لا تملك الأدوات الطبيعية لممارسته، لكن هل استمر هذا الأمر في العصر الحديث؟ اختلف الأمر نسبيا في عصر النهضة فكانت هناك البعثات العلمية إلى أوروبا، وكانت هناك الدعوات إلى تحرير المرأة من براثن التقاليد الذكورية وتعليمها، وكانت هناك المؤسسات التعليمية والتنوير، وكانت هناك النساء اللواتي أسهمن في الحركة الثقافية والأدبية، وكانت هناك الصحافة والطباعة والنشر، وغير ذلك من وجوه الحياة الحديثة، ومع ذلك لم تكن هناك ناقدات في العالم العربي بالمفهوم الدقيق للناقد.

ينشر المقال بالاتفاق مع مجلة "الجديد" الثقافية الشهرية اللندنية

كان تعليم المرأة يقف عند حدود معينة ولا يسمح لها بغير ذلك، وعندما تم إنشاء الجامعة المصرية لم يسمح للفتيات بدخول الجامعة، وكان لأستاذنا طه حسين الفضل في كسر التقاليد المجتمعية الذكورية، وتقويض القوانين الجامعية التي تحرم المرأة من الالتحاق بالجامعة، وذلك بتأويل القانون الذي ينص على: يدخل كلية الآداب قسم اللغة العربية الحاصل على البكالوريا أو ما يعادلها؛ دخلت سهير القلماوي الجامعة بتأويل طه حسين للقانون فالحاصل على البكالوريا يدخل فيها الطالب والطالبة، والبكالوريا أو ما يعادلها تنطبق على الثانوية التي حصلت عليها سهير من مدرسة أميركية.

وكان عميد كلية العلوم الإنجليزي في ذلك الزمان قد أطاح بأحلام سهير التي كانت ترغب في الالتحاق بكلية الطب، وكان عليها أن تقضي سنة تمهيدية بكلية العلوم عندما رفض دخولها الكلية انصياعا للقانون الذي يمنع الفتيات من الالتحاق بالجامعة؛ ذهبت بعدها إلى أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد الذي كان يشغل منصب مدير الجامعة ووعد بأن يعرض مشكلتها على مجلس الجامعة، لكن عميد كلية العلوم هدد بالاستقالة إذا تم قبول سهير في كلية العلوم.

وقادت الأقدار سهير إلى طه حسين بوساطة من خالها، وما فعله طه حسين هو تأويل للقانون عرضه على مدير الجامعة الذي قبله من غير تردد، ودخلت سهير كلية الآداب بتأويل طه حسين ودعم أحمد لطفي السيد، دخلت الجامعة من وراء ظهر الحكومة وتقاليد المجتمع القاسية، ولم تدخل فتاة كلية الآداب إلا بعد أن حصلت سهير على درجة الليسانس، لقد كانت نتيجة المغامرة التي نفذها طه حسين بالاتفاق مع لطفي السيد هي دخول الفتيات الجامعة رغم أنف الحكومة وتقاليد المجتمع.

لكن المغامرة أنتجت الناقدة الأولى في العالم العربي، وأتت المغامرة أكلها فكانت بنت الشاطئ عائشة عبدالرحمن، ثم توالت الناقدات والحفيدات، ومازلنا نتطلع إلى المزيد من الناقدات مع تعليم البنات وتقويض التقاليد الذكورية البالية.

9