كيف نعلّم؟

التربية في جوهرها سياسية، ومن الوهم أن نعتقد العكس، لأن أي مشروع تربوي ليس سوى تمثّل لما نأمل أن نفعله بجيل ما.
الخميس 2019/02/14
غاية التربية لا ينبغي أن تكون قولبة أفراد بل خلق وعي

سيليستان فريني (1896-1966) اسم ليس غريبا على رجال التربية والتعليم في العالم، فقد ابتكر بالتعاون مع زوجته إليز فريني، ومع شبكة من المعلّمين داخل فرنسا وخارجها، سلسلةً من التقنيات البيداغوجية القائمة على حرية التعبير لدى الأطفال رسما وكتابة، وعلى التراسل بين المدارس، وإنشاء مطبعة وصحيفة مدرسية، والتشجيع على القيام ببحوث، وعقد اجتماعات في نطاق التعاونيات… وقد ساعده التزامه السياسي والنقابي، في فترة شهدت صراعات أيديولوجية حادة، على تصوّر التربية كوسيلة لتنمية الوعي المدني والسياسي، فوضع في النصف الأول من القرن الماضي أسس “البيداغوجيات النقدية”، ثم تلاه ابنه الروحي البرازيلي باولو فرير، في إرساء ما سمي بالمدرسة الحديثة.

عاد الحديث هذه الأيام عن البيداغوجيات النقدية في كتاب ساهم فيه ثلّة من الباحثين تحت إشراف المؤرخة لورانس دو كوك وعالمة الاجتماع إيرين بيريرا، استحضروا فيه تجربة فريني التي سار عليها الأميركان وبعض البلدان الأنكلوسكسونية فيما تجاهلها الساهرون على التربية في فرنسا، لأن المجتمع الفرنسي، كما أوضحت لورانس دوكوك، لا يحثّ سوى على تحقيق رغبة ذاتية، ولا تزال الحكومات المتعاقبة تختصر التربية في مسار إنجاز شخصي، وتنبذ الأساليب التي تشجع على الأعمال المشتركة أو تعيد النظر في شروط تعليم المعارف. فباسم التقاليد أي رفض البيداغوجيا، أو باسم النيوليبرالية أي نشر بيداغوجيات مفرغة من بعدها السياسي، وقع التغاضي عن تلك البيداغوجيات النقدية.

 ففي رأي الباحثة أن التربية في جوهرها سياسية، ومن الوهم أن نعتقد العكس، لأن أي مشروع تربوي ليس سوى تمثّل لما نأمل أن نفعله بجيل ما. وما من مادة في نظرها إلا وهي خاضعة للسياسة. فالتاريخ مثلا هو مادة توضع دائما لخدمة أغراض معيّنة، فهي في العهد الملكي أداة لإضفاء الشرعية على الأقوياء، ثم انتقلت إلى وسيلة لتمتين البعد التاريخي لأمة في طور التشكل، وما زالت في يوم الناس هذا تشرع وجود أصحاب النفوذ، فيما الموضوعية تقتضي إنجاز قراءة نقدية للماضي، والحاضر أيضا. ومن ثَمّ جاءت دعوة الكتاب صريحة إلى شحذ الملكة النقدية لدى المتعلمين وتوعيتهم بكل أشكال الهيمنة، ماضيا وحاضرا، وحثهم على العمل من أجل مجتمع أكثر عدلا، يمنح مساواة حقيقية أمام المعرفة.

وما يهمنا هنا هي النقطة التي تركّزت حولها المساهمات، وهي أن غاية التربية لا ينبغي أن تكون قولبة أفراد، بل خلق وعي ليس بغرض تنشئة المتعلمين على قلب الهيمنة بكل أشكالها رأسا على عقب، بل لتهيئتهم على إلغائها، من خلال زرع قيم التضامن والمساواة.

15