كيف كان "متنبي الرواية" يبني أعماله وشخصياته وأفكاره

كتاب يحلل روايات نجيب محفوظ لاكتشاف منطلقاتها الفكرية والفنية.
الأحد 2024/12/22
كاتب أتقن نحت شخصياته

منذ أيام مرت ذكرى ميلاد الكاتب المصري نجيب محفوظ الذي لا يزال أدبه محط اهتمام النقاد إلى اليوم، وقد رصدت المئات من الكتب والمؤلفات كتابات محفوظ من زوايا متنوعة ومختلفة، ولن يكون آخرها كتاب "آليات التشكيل الفني في روايات نجيب محفوظ" للناقد حلمي محمد القاعود الذي يضيء جوانب هامة من رؤى الكاتب.

ألقابٌ كثيرة أُطلقت على نجيب محفوظ، منها عميد الرواية العربية، وصاحب نوبل، ومؤرخ الحارة المصرية، وأمير الرواية العربية، وكاتب مصر الأكبر،.. إلخ، ويضيف الناقد والروائي الدكتور حلمي محمد القاعود لقبا جديدا لنجيب محفوظ هو “متنبي الرواية” وذلك على غلاف كتابه الجديد “آليات التشكيل الفني في روايات نجيب محفوظ” والذي يجمع بين ضفتيه اثنتي عشرة دراسة ومقالا عن بعض روايات نجيب محفوظ، كتبها القاعود على مدار سنوات مختلفة.

يقول القاعود في استهلاله لكتابه، الصادر عن دار النابغة للنشر والتوزيع، “تناولتُ الروايات وفقا لمنهج نقدي جمالي تكاملي بالمفهوم القديم.” ويبدأُها برواية “القاهرة الجديدة” -التي نشرت عام 1945- وفيها يركز الحديث على شخصية محجوب عبدالدايم، حيث لم تحظ شخصية روائية في أدبنا المعاصر بمثل ما حظيت به تلك الشخصية التي تمثل صورة الكائن الانتهازي الذي يدهس قيم الدين والأخلاق والغيرة والمروءة والشرف. وصار يضرب مثلا به في العقود الأخيرة، أو يُطلق على الشخصيات المارقة التي تبحث عن مصلحتها دون أن تبالي بأية قيمة إنسانية.

شخصيات وأفكار

حلمي محمد القاعود: آخذ على نجيب محفوظ أن الدين يرتبط لديه غالبا بالدروشة والدراويش قبل أن يمر بتحولات فكرية وثقافية
حلمي محمد القاعود: آخذ على نجيب محفوظ أن الدين يرتبط لديه غالبا بالدروشة والدراويش قبل أن يمر بتحولات فكرية وثقافية

يرى القاعود أن نجيب محفوظ قدم شخصيات عديدة شهيرة، إلا أنها لم تأخذ حظ محجوب عبدالدايم الذي عبَّر بصدق عن نماذج حقيرة يعانيها المجتمع في الكثير من المجالات بدءا من السياسة حتى الصحافة، مرورا بكل المهن والفئات، مؤكدا أن الرواية قدمتْ نموذجا فريدا في انحطاطه وابتذاله وأنانيته التي جعلته يقوم بدور يأباه كل حر شريف مهما كان فقيرا أو محروما.

ويشير المؤلف إلى اختيار محفوظ تلك الشخصية ليصورها من الداخل، ويقدم نموذجا غريبا من الشباب، لا يفكر خارج ذاته، ولا يعنيه الوطن ولا القيم العليا، ولكنه يضرب بكل ذلك عرض الحائط، ويختزن سيلا من الكراهية والبغضاء والحقد على عباد الله، الأغنياء وغير الأغنياء. وكان إبليس هو أسوته الحسنة، حيث يقول في ص 29 من الرواية “ليكن لي أسوة حسنة في إبليس.. الرمز الكامل للكمال المطلق.. هو التمرد الحق، والكبرياء الحق، والطموح الحق، والثورة على جميع المبادئ.”

وتعد شخصية محجوب عبدالدايم هي الشخصية الرئيسية في تلك الرواية، إنها شخصية مثيرة وحافلة، ولعل أبرز مشكلاته  مشكلته الجنسية، ويصفها بأنها مشكلة عسيرة الحل كالقضية المصرية سواء بسواء.

وبعد تحليل القاعود لفكرة الرواية، والحديث عن عناصر المكان والزمان والشخصيات والبناء الفني والحوار الذي يكشف عن نظرة الشخصيات ومفاهيمها، فضلا عن المونولوج والتصوير والتضمين والاقتباس، يخلص إلى أن رواية “القاهرة الجديدة” تبقى تعبيرا حيّا عن مصر المنكوبة بالفساد والخلل الاجتماعي، قدمها نجيب محفوظ من خلال سياق فني رائع، جعل شخصياتها الأساسية نموذجا يكرهه الناس، ويذكرونه مع رؤية كل شخصية مماثلة تدوس على القيم والأخلاق فيحتقرونها ويزدرونها.

وفي رواية “الكرنك” يؤكد القاعود ما ذهب إليه محفوظ نفسه وصرح به لرجاء النقاش من “أن الرواية مع جرأتها في حينه، وأهمية موضوعها لم تظهر كما أراد المؤلف بكامل هيئتها، وقد يرى بعض القراء أن الرواية تعاني من تشويه أو بعض الفجوات.”

كتابات نجيب محفوظ في مجملها كانت صدى لثقافته الإسلامية وحفظه للقرآن وتأثره بالبيئة الإسلامية التي نشأ فيها

ولعلي أضيف هنا ما قاله نجيب محفوظ أيضا “‘الكرنك’ و’الحب تحت المطر’ هما الروايتان اللتان ظهرتا بهذه الصورة الناقصة، حيث يختلف الأصل إلى حد ما عن الصورة التي ظهرت للناس، وللأسف ليس عندي أصول الروايتين لأعيد نشرهما كاملتين من جديد، فأنا أكبر ‘مقطَّعاتي’.”

ويرى الناقد القاعود أن محفوظ كان مشغولا بقضية أساسية، وهي قضية الحرية والوعي، ولم يكن معنيّا بخلافات السادات مع الشيوعيين والتنظيم الطليعي، ولا دخل للأمر في فن الرجل وإصراره على مهاجمة الدكتاتورية الفاشلة.

وفي روايته “قلب الليل” يرفض القاعود التفسير الرمزي لهذه الرواية القصيرة، لأنها من الوضوح والبساطة والصراحة في مكان رفيع. وقضية هذه الرواية تتمثل في “أزمة اليقين” أو الحيرة بين الإنسان الإلهي -كما يعتقد الراوي الكبير جد البطل- والإنسان العاقل الذي يستخدم عقله فقط يحتكم إليه في كل شيء.

وتتمثل مأساة جعفر الراوي في الصراع بين عقله وبين إيمانه الراسخ بالله. إنه “عاجز عن الكفر بالله”. ويرى الناقد أن في هذه العبارة ما يمكن تسميته بملخص القضية الإيمانية لدى نجيب محفوظ، أو بمعنى آخر أزمة اليقين لدى جعفر الراوي.

وهنا يؤكد القاعود أن التصور الإسلامي يختلف بالطبع عن التصور الفلسفي والوضعي، لأن الأول يأتي من لدن الله، والثاني ينبعث وفق رؤى بشرية قاصرة، لا تستطيع الوفاء الشامل والكامل بمتطلبات الفطرة الإنسانية. ويرى أن الفن ليس رصدا للغرابة والشذوذ وغير المألوف، بل إنه رصدٌ للحياة بكل ما فيها من مزيج يضم الاستقامة والاعوجاج، والحلاوة والمرارة.

رؤى وقضايا

ت

يتوقف القاعود عند اللغة لدى نجيب محفوظ في هذه الرواية، ويتساءل: ما هذا السخاء اللغوي الذي يبذله نجيب محفوظ في هذه الرواية؟ إنه يشعر بعطر اللغة يفوح غلابا ليفرض نفسه في صفحات الرواية. بل يذهب إلى أن جمال اللغة -في هذه الرواية- يضع كثيرا من شعرائنا الموجودين بيننا اليوم في مأزق حرج، وفي موقف لا يُحسدون عليه.

وعند البناء الفني في “ملحمة الحرافيش” يتوقف القاعود، وهي دراسة كُتبت عام 1979 (أي بعد صدور الرواية بسنتين)، ويتساءل: كيف نستطيع العثور على ذلك المستبد العادل الذي يحلم به نجيب محفوظ في ثنايا الرواية؟ حيث تتحول فكرة العدالة إلى حلم يبدأ منذ الصفحات التمهيدية حتى صفحات الختام. حيث يقول عاشور الأخير بقوة ووضوح: “إني أحب العدل أكثر مما أحب الحرافيش، وأكثر مما أكره الأعيان.”

وفي رأي الناقد فإن “ملحمة الحرافيش” تجتهد لأن تكون ملحمة على نمط “الملحمة الشعرية” التي تُصاغ شعرا، وتطول لتتحدث عن وقائع متتابعة زمنيّا، وقد نقبل تسميتها “ملحمة” تجاوزا اعتمادا على أسلوبها النثري المكثف الذي يقترب من الشعر في بعض الأحيان.

وقد رصد الناقد عدد الشخصيات في “الحرافيش” فوجدها تبلغ 125 شخصية. معظمها شخصيات مزدوجة تزدهر بصفة عامة في أدب نجيب محفوظ.

ويأخذ القاعود على محفوظ أن الدين يرتبط لديه غالبا بالدروشة والدراويش. ويخلص إلى أن “الحرافيش” رحلة داخل رواية، استخدم فيها المؤلف كل قدراته الفكرية والفنية، ليعبر عن حلمه الجميل، وحلمنا أيضا، بإقامة مملكة العدل والأمن.

في رواية “الطريق” نرى خمس عشرة شخصية معظمها يتاجر في الجنس والجريمة، وهنا يرى الناقد أن محفوظ يضحي بالجانب الإلهي أو الجانب الروحي، وهو ما يُفقد هذا العمل صفة التكاملية ودوره الجمالي. فعلاقة صابر الرحيمي بالله علاقة مفقودة وضائعة، بل لا وجود لها أصلا.

وحسب القاعود فإن مؤلف “الطريق” كان همه أن يجد مسوغا للجريمة، وسكت تماما عن الانحراف الجنسي، كأنه أمر عادي لا داعي إلى مناقشته، أو كأنه من مبررات الصنعة الفنية. ويرى أن صابر لو بذل في البحث عن الله عُشر ما بذله في البحث عن أبيه، لكتب الله له جميع ما طمح إليه عند أبيه في الدارين. فالمسألة في جوهرها مسألة إيمان مفقود.

أما “رحلة ابن فطومة” فهي الإطار التاريخي الذي استدعاه نجيب محفوظ ليعالج من داخله واقع الأمة الإسلامية، ولهذا لا نجد إشارة إلى زمان الرواية. أما المكان فهو يشكل عقدة الرواية، فمنذ البداية نجد أن ابن فطومة (قنديل العنابي) منذ حداثته مولع بالرحلة والمشاهدة، متشوق إلى التعرف إلى أماكن جديدة وعالم جديد. لكنه يحمل الوطن معه أنَّى سار وأنَّى ارتحل، وعن طريق المفارقة نعيش حالة من النقد المرير للوطن وما يجري فيه من مظالم ومآس، فـ”ديننا عظيم وحياتنا وثنية.”

الناقد يلاحظ أن معظم الشخصيات المسلمة التي وردت في روايات محفوظ كانت فصامية أو انتهازية بلا توازن نفسي

ويسأل قنديل العنابي -على البُعد- شيخه مغاغة الجبيلي “أيهما أسوأ يا مولاي. من يدعي الألوهية عن جهل، أم من يطوع القرآن لخدمة أغراضه الشخصية؟”

ويخلص القاعود إلى أن نجيب محفوظ استطاع أن ينعطف نحو قضايا الإسلام والمسلمين في “رحلة ابن فطومة”، وبعض رواياته الأخيرة، بصورة أكثر نضجا من ذي قبل.

في رواية “الباقي من الزمن ساعة” جيل يمضي وجيل يأتي، حيث تبدأ الرواية أحداثها من عام 1936، وهو تاريخ توقيع معاهدة إنهاء الاحتلال البريطاني لمصر بين الحكومة الإنجليزية وحكومة الوفد التي كان يمثلها مصطفى النحاس، وصولا إلى عام 1979 (وهو عام توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل). وما بين التاريخين والمعاهدتين أو الاتفاقيتين، أقام الكاتب بناء روايته من خلال أسرة متوسطة الحال تمتد لتشمل ثلاثة أجيال. وذلك من خلال إيقاع سريع للسرد.

وهكذا يتناول الناقد د. حلمي محمد القاعود سبع روايات لنجيب محفوظ، غير أن هناك العديد من القضايا والآراء المطروحة حول أدب محفوظ بصفة عامة، وهو الجزء الثاني الذي تحدث فيه القاعود عن متنبي الرواية العربية.

من هذه القضايا قضية الإيمان في أدب نجيب محفوظ، حيث يلاحظ الناقد أن أغلب الشخصيات التي وردت في روايات محفوظ كانت فصامية أو انتهازية، ولم يكن أي منها متسقا مع نفسه، أو مع قيم الإسلام، أو كانت صوفية مغيبة عن الواقع وبعيدة عن مشكلات المجتمع.

ويرى القاعود أن شخصية محمد الإخواني الذي فقد عينه تحت التعذيب في رواية “الباقي من الزمن ساعة”، هي الشخصية الوحيدة الأقرب إلى الإيجابية والاتساق مع المفاهيم الإنسانية، ما عدا ذلك فهي شخصيات تعيش الازدواجية والوصولية.

وفي مقال “نجيب محفوظ وخصوم الحقيقة” يرى القاعود أن محفوظ لا يعادي الإسلام ولا يشهر به كما فعل ويفعل الشيوعيون ونظراؤهم في الفكر والاعتقاد والسلوك.

الأدب والدين

ع

يشدد القاعود على الكلمة التي كتبها نجيب محفوظ وأُلقيت في حفل توزيع جائزة نوبل عام 1988 ويشير إلى قوله “سوف تتلاشى الأهرامات ذات يوم، ولكن الحقيقة والعدل سيبقيان ما دام في البشرية عقل يتطلع أو ضمير ينبض.”

وهو يفرد مقالا في نهاية الكتاب عن “مسجد نجيب محفوظ” بقرية العزيزية على مسافة 64 كيلومترا من القاهرة بمحاذاة الطريق الصحراوي الذي يربط بين القاهرة والإسكندرية. وهو المسجد الذي أقامه محفوظ بعد حصوله على جائزة نوبل، على مساحة تصل إلى 430 مترا، ويتسع لاستقبال 1000 شخص. ويخدم قرابة عشر قرى صغيرة مجاورة خالية من المساجد، وبها عدد من المزارع الصغيرة.

ويشير صاحب كتاب “متنبي الرواية” إلى أن الكاتب الراحل كان يقضي بتلك القرية بعض الوقت، وحرص على بناء المسجد بها ليكون عملا صالحا يخدم الناس.

أخيرا يرى حلمي القاعود أن كتابات نجيب محفوظ في مجملها كانت صدى لثقافته الإسلامية وحفظه للقرآن وتأثره بالبيئة الإسلامية التي نشأ فيها، ومجاورته للأزهر ونشأته في حي الحسين. ومن الطبيعي وهو الذي تعلم في قسم الفلسفة بجامعة فؤاد الأول (القاهرة) أن يمر بتحولات فكرية وثقافية جعلت من رواياته الأخيرة صورة مضيئة لروح الإسلام.

وهو يرى أن “أولاد حارتنا” ما هي إلا مرحلة من مراحل التحولات التي جانبه فيها الصواب، وقد رضي بألا تنشر إلا إذا سمح الأزهر بنشرها، ولكن الشيوعيين الذين أثاروا الفتنة قديما وحديثا، لا يرضيهم أن يُعلن الرجل عن إسلامه، ويبني مسجدا يخدم الناس ويتقرب به إلى الله.

ويختتم القاعود كتابه الذي جاء في 262 صفحة بما أخبره به محمد صبري -سكرتير نجيب محفوظ- من أن الأستاذ “كان يتيمَّم عند الصلاة في مرحلته الأخيرة، لأنه لم يكن يستطيع الوضوء بسبب عجز يده.”

لقد ظهر مصطلح الأدب الإسلامي في الثمانينات من القرن الماضي، ولم ينكره نجيب محفوظ بل قال في أحد حواراته “أنا لست ضد الأدب الإسلامي، فمن الخير أن يوجد الأدب الإسلامي، وأي أدب أهلا به وسهلا. وليس معنى أن أكتب أدبا إسلاميّا أن يكون هذا الأدب عن خالد بن الوليد مثلا. يكفي أن تكون فيه بعض القيم الإسلامية وثقافة إسلامية عامة. إنهم يحصرون الأمر في أضيق الحدود. فليكن وينشأ أدب ويوجد أدباء، وتكون له جائزته، فهذا خير في حد ذاته وأنا أرحب به. وهناك من الأدباء الذين ينتمون إلى التيارات الإسلامية كتبوا عني من أحسن ما يمكن ولم أكن أتوقع منهم ذلك مثل الدكتور نجيب الكيلاني، قرأت مقالة له من أبدع ما يكون. وهو منظّر الأدب الإسلامي. في لحظة اعترف اعترافا جميلا بكل المجهود الذي بذلته.”

وعن اهتمامه بالقرآن الكريم قال محفوظ “إن القرآن الكريم يعتبر الكتاب الوحيد الذي كنت أعود إليه كثيرا. الكتب التي كانت تعجبني كنت أقرأها مرة واحدة، وبدلا من أن أقرأها ثانية، كما كنت أتمنى، كنت أقرأ بدلا منها كتابا جديدا، باستثناء القرآن الكريم.”

10