كيف تخرج المؤسسات الإعلامية العربية من الغرق في دوامة أخبار غزة

لا تزال وسائل الإعلام والوكالات العربية على نفس وتيرة الانشغال بموضوع الحرب على غزة، بتدفق إخباري مستمر غرق في التكرار والإحصاءات وتعداد الضحايا والخسائر، في حين أصبحت الحاجة ملحة إلى الخروج من هذه الدوامة وفسح المجال لجميع التطورات في الشرق الأوسط.
غزة – تحولت المؤسسات الإعلامية ووكالات الأنباء العربية أو الأجنبية الناطقة بالعربية إلى عداد إخباري لحالات القتل والتدمير خلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة بسيل من الأنباء العاجلة والتقارير على مدار الساعة، إلى درجة أنها تجاوزت في أحيان كثيرة مهمة توفير المعلومات والأخبار إلى إصابة الجمهور بتخمة إخبارية عبر نقل أصغر التفاصيل التي تبدو اعتيادية لشعب يعيش تحت الحرب.
وتعتمد وكالات الأنباء في تغطيتها لحرب غزة منذ 14 شهرا على حالة الاهتمام والانشغال العربي عموما بالأوضاع في غزة ووجود تعاطف إنساني وشعبي من الجمهور في المنطقة العربية وأنحاء مختلفة من العالم والحاجة الملحة إلى متابعة ما يجري من تطورات، لاسيما المفاوضات التي استمرت شهورا طويلة للوصول إلى هدنة هشة مازال مصيرها يثير القلق.
ووفر هذا الاهتمام الشعبي بأخبار غزة مبررا لتدفق إخباري يملأ مساحة البث بتناول تفاصيل التفاصيل وطغيانها على الكثير من الأخبار الأخرى وتقليص البرامج، في حين أن مواقع التواصل الاجتماعي نفسها خفت فيها الحديث عن أخبار غزة ولم يبق على حاله وعكست اهتماما بقضايا أخرى كثيرة تتجاهلها وسائل الإعلام.
الكثير مما تتداوله وسائل الإعلام مكرر ويخضع لإعادة تدوير على مدار اليوم وحتى الأسبوع، مجاراة لحالة الانشغال العربي بغزة
وتبدو وكالات الأنباء تدور في دوامة أخبار غزة التي لم تستطع الخروج منها حتى الآن، إذ أن الكثير مما تتداوله مكرر ويخضع لإعادة تدوير على مدار اليوم وحتى الأسبوع، على حساب قضايا مهمة في الشرق الأوسط، في حين أن الإحصاءات والتعداد يفترضان الاستناد إلى بيانات ترصدها مراكز بحث.
ومن بين أبرز المؤسسات الإعلامية التي غرقت في هذا الموضوع وكالة الأناضول التركية بتخصيص عناوين عريضة لحزمة كبيرة من الأخبار والتقارير لكل فترة من مراحل الحرب في غزة، مثل “غزة تباد”، و”غزة بعين العاصفة” و”الإبادة مستمرة” و”إسرائيل والإبادة الجماعية”.
ومع هذا التركيز على هذه القضية برزت مسألة طبيعة هذه التغطية ومدى مهنيتها والتزامها بمعايير العمل الصحفي وقدرتها على التناول الموضوعي لقضية يغلب عليها الجانب الإنساني والتعاطف مع المشاهد المؤلمة التي تتناقلها وكالات الأنباء كل يوم.
وتباين حجم توظيف القنوات والمؤسسات الإعلامية في معالجة الأحداث وفقا لتوجهاتها، فهناك من ركز على الجانب العاطفي والإطار الإنساني، مثل الجزيرة والأناضول، وطغى الرفض والاستنكار على أخباره، بينما قنوات مثل العربية والحرة هيمن على تغطيتها إطار الصراع العسكري والأضرار والتحليلات السياسية وردود الفعل.
وأظهرت متابعة تغطية المؤسسات العربية لأحداث الحرب على غزة منذ “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر 2023، استخدام الكلمات والألفاظ والمصطلحات التي تعكس سياسة وتوجهات القنوات ووسائل الإعلام، فمثلا قناة الجزيرة تستخدم أسلوب التضخيم والمبالغة في تصوير “طوفان الأقصى” على أنه عملية ناجحة انتصرت فيها حركة حماس على “الجيش الذي لا يقهر”، ما يدل على تبنيها موقفا مدافعا عن العملية، بضخ إعلامي على مدار الساعة وهو ما يعكس انحيازا واضحا يخالف مبدأ المهنية الصحفية.
وتشير غالبية المصطلحات المستخدمة في الجزيرة إلى التركيز على فشل استخباراتي وعسكري في إسرائيل، وفق دراسة تحليلية مصرية. أما قناة العربية فقد تباينت تغطيتها واختلفت من حين إلى آخر بين “الحرب على غزة” و”العدوان الإسرائيلي على غزة”.
وتنوعت التغطيات التي اعتمد عليها مراسلو القنوات التلفزيونية والمؤسسات الإعلامية، بين الاستمالة العاطفية للجمهور والاستمالة المنطقية والعقلية، وهو ما ظهر جليا في تغطية قناة الجزيرة التي استخدمت زخما إخباريا مع توظيف اللقطات المصورة للضحايا وآثار الدمار وعبر الكلمات والألفاظ مثل “شهيد” و”قتل وهو يبحث عن أمه” و”مأساوي” و”خطير” و”دموي”، والتركيز على المعاناة في أصغر تفاصيلها بما فيها معاناة المراسلين أنفسهم كجزء من معاناة القطاع.
من جهتها، تبنت قناة العربية النمط العقلاني بشكل واضح في تغطياتها حيث اعتمدت على الاستشهاد بالوقائع واستخدام الأرقام والإحصاءات والاستعانة بالتصريحات والبيانات واستطلاعات الرأي.
أما بالنسبة إلى قناة القاهرة الإخبارية فقد كانت تغطيتها مزيجا من العقلانية والعاطفة، حيث اعتمدت على التوثيق خصوصا عند الحديث عن الأرقام الخاصة بالاعتقالات وأعداد الضحايا، إلى جانب توظيف المصطلحات التي تصف بشاعة المشهد والممارسات الإسرائيلية في القطاع والاستعانة بشهود العيان والضحايا ليتحدثوا عن تجربتهم القاسية.
وكالات الأنباء تدور في دوامة أخبار غزة التي لم تستطع الخروج منها حتى الآن، إذ أن الكثير مما تتداوله مكرر ويخضع لإعادة تدوير على مدار اليوم وحتى الأسبوع
بدورها كانت تغطية قناة الحرة الأميركية تسير في اتجاهين؛ الفلسطيني والإسرائيلي، مع مساحة واسعة للتركيز على معاناة المدنيين من الطرف الفلسطيني نساء وأطفالا، وأيضا من عائلات الأسرى والمخطوفين من الجانب الإسرائيلي بعد عملية “طوفان الأقصى”.
كما خصصت قناة فرانس 24 مساحة واسعة أيضا لتغطية الأحداث في غزة، من خلال إبراز خسائر إسرائيل البشرية وأعداد جنود الاحتياط الذين تمت الاستعانة بهم وتصريحات المسؤولين العسكريين ورئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، فيما كانت مراسلتها في غزة تنقل بصورة موجزة الوضع الكارثي والعالقين تحت الأنقاض مع معاناة المدنيين من الهجمات الإسرائيلية.
وعبرت وسائل الإعلام عن التوجهات السياسية للدول التابعة لها؛ فقد أظهرت نتائج دراسة حديثة، تناولت تغطية القنوات التلفزيونية للحرب على غزة، أن الكثير منها تميل إلى الجانب الإسرائيلي وتحميل حماس مسؤولية ما يحدث، حيث أظهرت تغطية قناة الحرة تعاطفا أكبر مع الجانب الإسرائيلي عبر نقل معاناة المدنيين الإسرائيليين من أهالي القتلى والمخطوفين في 7 أكتوبر 2023 على أيدي حماس.
وارتبطت التغطية الإخبارية للقناة حول العملية بارتكاب الفصائل المسلحة انتهاكات لحقوق الإنسان وجرائم قتل الأطفال والنساء والمدنيين، وبذلك بررت رد الفعل الإسرائيلي العنيف، بما يتوافق مع سياسة الولايات المتحدة، بحسب الدراسة.
وعكست تغطية القناة الأميركية بالنسخة العربية موقف الإعلام الأميركي عموما المؤيد لسياسة الإدارة الأميركية وموقف واشنطن من الصراع. وذلك رغم تخصيص مساحة جيدة للحديث عن معاناة المدنيين الفلسطينيين وما يعانيه سكان القطاع من الهجمات الإسرائيلية والوضع الإنساني الكارثي ونقص المستلزمات الطبية والغذاء والوقود.
وفي فرانس 24 اقتصرت تغطية المراسلات الميدانية على المصادر الرسمية للقادة العرب والإسرائيليين والفلسطينيين إلى جانب الاعتماد على الصحف الإسرائيلية. وجاءت تغطية قناة الجزيرة متبنية لموقف قطر ومنحازة بشكل كبير إلى جانب حماس وكتائب القسام التابعة لها وغلب على أداء المراسلين الأسلوب الحماسي والتهويل والتضخيم في تغطية بعض الأحداث.
أما قناة القاهرة الإخبارية فهي إلى جانب دعمها للطرف الفلسطيني والتركيز على آثار التخريب والدمار ومعاناة الفلسطينيين، ركزت على دور مصر الفعال والمساند لسكان غزة من خلال تقديم المعونات واستقبال الجرحى والموقف الداعم لهم.