كيف تحررت الإمارات والسعودية من كابوس أميركي طويل

النظام الدولي ينهار ولكن ليس لأنه منافق وليس لأنه يفتقر إلى القوة العسكرية أو الاقتصادية التي يدافع بها عن تفوقه بل لأنه يعجز عن أن يكون ذكيا ومبدعا وذا خيال.
الجمعة 2022/04/01
إمبراطورية غارقة

القوة والإرادة لا تجتمعان إلا وتصنعان ثورة. وبمقدار ما يتعلق الأمر بعلاقاتنا مع النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، فقد توفر للسعودية والإمارات ما يشير إلى أنهما تمضيان في طريق ثورة يمكنها أن تغير الكثير من المسارات في المنطقة، بل وربما العالم كله أيضا.

الأمر بدأ بإعادة حسابات قائمة على تفكير حر، خارج صندوق الضغوط التقليدية، من قبل أن تندلع الأزمة في أوكرانيا. ولم تكن الدوافع جزئية، فتتعلق مثلا بالموقف من الاتفاق النووي مع إيران، أو غيرها من القضايا الأمنية. ولا كانت تقتصر على تراجع الالتزامات الأميركية في المنطقة. لقد كانت قائمة على قراءة جديدة لمسارات التغيير في العالم، وما يتوجب فعله لتوظيف القوة الاقتصادية من أجل التموضع في عالم ما بعد انهيار الإمبراطورية الأميركية.

خلاصات هذه القراءة كانت تستوجب موقفا شجاعا، يعبر عن إرادة تجرؤ على أن تكون حرة.

ما بقينا نراه ونطالعه عن المتغيرات في العلاقات مع الولايات المتحدة، كان مجرد إشارات على ما يحدث تحت السطح الظاهر للمواقف المعلنة.

◙ نحن نعيش في منعطف، لاحظته الإمارات، قبل أن يكشف عنه الرئيس ماكرون. والعالم هش. قيادة الولايات المتحدة الفاشلة للنظام الدولي حولته إلى كابوس

ويجب الاعتراف بأن الولايات المتحدة، كأي إمبراطورية غارقة، كانت هي التي وفرت بنفسها بعض السبل التي دفعتنا إلى القول: كفى.

كما تحررت اللغة أيضا. دبلوماسيتنا صارت قادرة على أن تنطق. إذ أصبح التفكير الحر هو قاعدتها الأساس، وليس مراعاة مشاعر حليف أمضى الثلاثين عاما الماضية وهو لا يراعي مشاعرك.

النفاق والمعايير المزدوجة جزء من طبيعة النظام الدولي، ولكنه أصبح مفضوحا إلى درجة مخزية. ثورة الاتصالات أسهمت بالكثير في الكشف عن طبيعته، ولكنه لم يُصبح جزءا من التداول الدبلوماسي “الصريح” إلا الآن.

لا الأميركيون ولا الأوروبيون سوف يجرأون، بعد الآن، على المقارنة بين ماريوبول وحلب، في إدانة الوحشية الروسية مرة أخرى. وعندما ذكرها جوزيب بوريل مسؤول السياسة الخارجية الأوروبية أمام نظيره السعودي الأمير فيصل بن فرحان، رد عليه بالقول “لكن تعاطيكم في الغرب مع حلب سابقا كان مختلفا عما تتعاطون به مع ماريوبول اليوم”.

الأمر نفسه ينطبق على مفارقة التعامل مع الاحتلال الروسي لأوكرانيا والاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية. هناك احتلال يُدان ويُحارب وتُزوّد مقاومته بالأسلحة. وهناك احتلال مُدلل، هو الذي يُزود بالأسلحة، وتُدعى مقاومته إلى “ضبط النفس”.

في خضم الكثير من المبالغات والمزاعم التي اضطر وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف أن يخوض فيها للدفاع عن مغامرة بلاده في أوكرانيا، قال شيئا صادقا، كان بحد ذاته واحدا من أسباب الشرخ بين روسيا والولايات المتحدة. قال “الولايات المتحدة تقود نظامها الدولي ليس على أساس القوانين والمواثيق والالتزامات الدولية، وإنما على ‘قواعد’ هي التي تقررها، تختلف مع اختلاف المناسبة”.

على هذا الأساس، أصبح غزو العراق أمرا مشروعا. بينما الغزو الروسي لأوكرانيا غير مشروع.

هذا النظام الدولي ينهار، ولكن ليس لأنه منافق، وليس لأنه يفتقر إلى القوة العسكرية أو الاقتصادية التي يدافع بها عن تفوقه، بل لأنه يعجز عن أن يكون ذكيا ومبدعا ومثقفا، وذا خيال. نسي اللياقة نفسها، كما نسي أن احترام مصالح الغير وسيادتهم جزء من معايير العلاقات الدولية القائمة على القانون. وصار يخترع قيما أخلاقية لا يحترمها هو نفسه.

الانحطاط الثقافي في السياسة شيء جديد على انهيار الإمبراطوريات. وهو ما يقود الولايات المتحدة إلى الامتناع عن تصويب المسارات الاستراتيجية، ومنها العلاقات مع دول العالم الناشئة، قبل أن يفرض التصويب نفسه بالتمرد على الخلل.

◙ هناك احتلال يُدان ويُحارب وتُزوّد مقاومته بالأسلحة. وهناك احتلال مُدلل، هو الذي يُزود بالأسلحة، وتُدعى مقاومته إلى "ضبط النفس"

لا أحد قدم وصفا لهذا الواقع أفضل من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.

في خطاب أخير مع مبعوثي بلاده الدبلوماسيين، قال "السياسات الخاطئة لهؤلاء القادة الأميركيين انطوت على أخطاء جوهرية هي التي تهز الهيمنة الغربية. ومع ذلك، من ناحية أخرى، فقد قللنا إلى حد كبير من ظهور القوى الناشئة. قللنا من شأن صعود هذه القوى الناشئة، ليس فقط قبل عامين، ولكن منذ عشرة أو عشرين عاما. قللنا من شأنهم منذ البداية!".

ماكرون ضرب أمثلته في الصين وروسيا والهند، ولكن كان بوسعه أن يرى قوى ناشئة أخرى تشق طريقا سياسيا يجرؤ على التحرر من هيمنة الغرب وقيادة الولايات المتحدة. ببساطة لأن العالم كله يشعر بالحاجة إلى الخروج من كابوس هذه الهيمنة، ومن وقاحتها، ومن أنانيتها، ومن معاييرها المزدوجة.

"دعونا لا نقول أي شيء آخر، (يضيف ماكرون)، مجرد خيالهم السياسي أقوى بكثير من الغربيين اليوم. بعد أن يتمتعوا بقوة اقتصادية قوية، يبدأون في البحث عن فلسفتهم وثقافتهم. لم يعودوا يؤمنون بالسياسة الغربية، لكنهم بدأوا في متابعة ثقافتهم الوطنية. هذا لا علاقة له بما إذا كانت هناك ديمقراطية أو لا. الهند بلد ديمقراطي، وهو يفعل الشيء نفسه أيضا، باحثا عن ثقافته الوطنية. عندما تجد هذه الدول الناشئة ثقافتها الوطنية وتبدأ في الإيمان بها، فإنها ستتخلص تدريجيا من الثقافة الفلسفية التي غرستها الهيمنة الغربية فيهم في الماضي. وهذه بداية نهاية الهيمنة الغربية.

لا تكمن نهاية الهيمنة الغربية في التدهور الاقتصادي، ولا في التدهور العسكري، بل في التدهور الثقافي. عندما لم يعد من الممكن تصدير قيمك إلى البلدان الناشئة، فهذه هي بداية تراجعك. أعتقد أن الخيال السياسي لهذه البلدان الناشئة أعلى من خيالنا. الخيال السياسي مهم جدا. له دلالات قوية ومتماسكة ويمكن أن يؤدي إلى المزيد من الإلهام السياسي. سواء كنا أكثر جرأة في السياسة، فإن الخيال السياسي للبلدان الناشئة يفوق بكثير خيال الأوروبيين اليوم، كل هذا صدمني بشدة!

انتشلت الصين 700 مليون شخص من براثن الفقر، وسيتم انتشال المزيد من الفقر في المستقبل، لكن في فرنسا، يعمل اقتصاد السوق على زيادة عدم المساواة في الدخل بمعدل غير مسبوق".

الفشل بهذا المعنى لم يقتصر على العلاقات مع الخارج. إنه فشل داخلي أيضا؛ فشل يتعلق بجوهر الأسس الاقتصادية للرأسمالية وإمبرياليتها في العلاقات مع دول العالم.

لم نكن بحاجة إلى أزمة جديدة مع أوكرانيا لكي نعرف الأهمية الاستراتيجية (أهمية الاستقرار نفسه) لدول الخليج، لكي تدرك الولايات المتحدة أنها تضحي بقيادتها للعالم عندما تخل بالتزاماتها الأمنية في هذه المنطقة.

ولقد كان ذلك مناسبة سعيدة حقا. شكرا لسياسات الرئيس جو بايدن التي جعلت من الصين عدوا أول. وهربت من أمام إيران، لتعرّض أمن إمدادات النفط إلى الخطر، ولتضحي باستقرار المنطقة، ولتترك إيران تمارس سياسات زعزعة هذا الاستقرار من دون قيود.

لم يكن الأمر يتعلق بقراءة خاطئة لما يتوجب الأخذ به في العلاقات مع الصين وحدها، بل كان أمرا يتعلق بقراءة خاطئة لطبيعة التهديدات التي يتعرض لها نظام دولي هش، حتى حيال دولة زراعية.

فجأة اكتشفنا أن الغزو الروسي لأوكرانيا يمكن أن يهدد أفريقيا بالجوع. ولكن لم يكتشف بايدن أن 20 في المئة من الطاقة التي يستهلكها العالم تمر عبر مياه الخليج!

هل يحتاج أحد أن يفتقر إلى المعرفة، دع عنك الخيال، أكثر من ذلك؟

الخليجيون، منذ أول اعتداء إيراني على سفن الملاحة في مياه الخليج، ومنذ أول مظهر من مظاهر الفشل الأميركي في الرد، وبينما ظلت المباحثات من أجل العودة إلى الاتفاق النووي تمضي وكأن شيئا لم يكن، فقد كان يجب أن يعيدوا النظر في استراتيجياتهم.

السعودية والإمارات اللتان تمتلكان القوة، امتلكتا الإرادة على النظر إلى مصالحهما من خارج صندوق الارتهان أو الاعتماد على حليف يعجز عن إدارة شؤون الاستقرار. اختارتا أن تبنياه بحساباتهما الخاصة.

لا حروب، لا مشاكل، لا أزمات. وما من خلاف أو اختلاف إلا ويمكن حله بوسائل سلمية. وفي الوقت نفسه، لا علاقات دولية على حساب أخرى. والأمن يصنع نفسه بالازدهار الاقتصادي، ومنطق الرغبة بالتعاون والشراكة ورعاية المصالح المتبادلة.

◙ ما بقينا نراه ونطالعه عن المتغيرات في العلاقات مع الولايات المتحدة، كان مجرد إشارات على ما يحدث تحت السطح الظاهر للمواقف المعلنة

وما هذه إلا ثورة مفاهيم جديدة. وإذا نظرت إليها بالمقارنة مع التسليمات السابقة للمعادلات الأمنية والاقتصادية والدبلوماسية، فستعرف كم أنها ضخمة.

رئيس وزراء الإمارات حاكم دبي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم كتب مؤخرا يقول “العالم يمر بمتغيرات كبيرة وموازين جديدة وتحالفات صعبة، لن تكون الغلبة في النهاية إلا للأمم القوية الغنية المتقدمة. ألم يحن للعرب أن يتقاربوا، ويتعاونوا، ويتفقوا حتى يكون لهم وزن ورأي ومكانة في التاريخ الجديد الذي يصنع الآن”.

نحن نعيش في منعطف، لاحظته الإمارات، قبل أن يكشف عنه الرئيس ماكرون. والعالم هش. قيادة الولايات المتحدة الفاشلة للنظام الدولي حولته إلى كابوس. وهي التي جعلته قابلا للانهيار حيال أي أزمة، مهما كانت صغيرة.

"ماذا علينا أن نفعل الآن؟" (سأل الرئيس ماكرون أمام دبلوماسيي بلاده). "هل سنستمر في كوننا مشاهدين، أو معلقين، أو نتحمل المسؤوليات التي يتعين علينا تحملها؟ ولكن هناك شيئا واحدا مؤكدا، إذا فقدنا جميعا خيالنا السياسي وتركنا عادات العقود الماضية أو حتى القرون تملي استراتيجيتنا، فإننا سوف نفقد السيطرة. وبعد الخروج عن السيطرة، فإن ما ينتظرنا هو الاختفاء. تتلاشى الحضارة، وتتلاشى أوروبا، وتختفي معها لحظة الهيمنة الغربية. في النهاية، سوف يدور العالم حول قطبين: الولايات المتحدة والصين، وسيتعين على أوروبا الاختيار بين هذين الحاكمين".

تحتاج خيالا لكي تخرج من هذا الكابوس. تحتاج إرادة حرة لكي تقول للولايات: كفى علاقات لا تنطوي على الاحترام والندية. كفى نفاقا ومعايير مزدوجة. وكفى تخبطا وفشلا.

9