كيف انقلب المزاج الأوروبي لصالح إسرائيل

كشفت الحرب الدائرة مؤخرا بين الفلسطينيين والإسرائيليين عن حدوث تغيير جذري في السياسة الخارجية الأوروبية تجاه إسرائيل، حيث عبّر العديد من قادة أوروبا وبشكل خاص من الشعبويين وممثلي اليمين المتطرف عن دعهم لإسرائيل، في تجاوز لحالة الفتور التي شابت العلاقات معها العقود الماضية. ويعزو محللون انقلاب المزاج الأوروبي لصالح تل أبيب إلى أنّ معاناة الفلسطينيين لم تعد تمثل أولوية بالنسبة إليهم مقابل الأداء الاقتصادي والتكنولوجي اللافت لإسرائيل الذي جذب الاهتمام الأوروبي تجاهها.
واشنطن - وافق المجلس الأوروبي مؤخرا، على القرار القاضي بوقف إطلاق النار بشأن الحرب الدائرة في غزة، لكن المستشار النمساوي سيباستيان كورتس، الذي رفع العلم الإسرائيلي على المباني الرسمية تضامنا مع الدولة التي واجهت هجمات صاروخية من قبل حركة حماس، ليس الوحيد من ضمن الزعماء الأوروبيين الذين أعربوا علنا عن دعمهم لإسرائيل.
ومنذ بداية الجولة الجديدة من الصراع بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية المسلحة، عبر القادة الأوروبيون بشكل علني عن دعمهم لحق إسرائيل في الدفاع عن مواطنيها. ووصفت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل صواريخ حماس بأنها “هجمات إرهابية”، ورددت الطبقة السياسية الألمانية من اليسار واليمين، في خضم حملة برلمانية، دعمها لإسرائيل.
ووصفت المرشحة عن حزب الخضر وزعيمة الانتخابات الحالية أنالينا بربوك الأمن الإسرائيلي بأنه “المصلحة الوطنية للدولة الألمانية الحديثة.”
واعترف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بهذه التصريحات الداعمة، وشكر الرئيس الأميركي جو بايدن وكذلك القادة الأوروبيين، وتحديدًا “رئيس فرنسا، ورئيس الوزراء البريطاني، ومستشار النمسا، ومستشارة ألمانيا، وآخرين.”
وأضاف نتنياهو “لقد أيدوا حقنا الطبيعي والثابت في الدفاع عن أنفسنا، والعمل دفاعا عن النفس ضد هؤلاء الإرهابيين الذين يهاجمون المدنيين ويختبئون وراء المدنيين.”
وكتب بنيامين حداد مدير مبادرة أوروبا المستقبلية في المجلس الأطلسي بواشنطن في تقرير ضمن مجلة فورين بوليسي الأميركية أن المعركة الأخيرة، كشفت عن حدوث تغيير جذري في السياسة الخارجية الأوروبية تجاه إسرائيل، التي استغرق صنعها سنوات.
وتساءل حداد عما إذا كان الأداء الاقتصادي والتكنولوجي لإسرائيل وراء جذب الاهتمام الأوروبي تجاهها، أم أن المجتمع الأوروبي بدأ ينظر إليها على أنها دولة تواجه تحديات وهجمات إرهابية مماثلة.
تغير الموقف الأوروبي
من النادر اليوم العثور على دبلوماسي أوروبي يدعي أن الصراع الإسرائيلي -الفلسطيني هو المفتاح لحل التوترات في المنطقة
حال العلاقات الأوروبية – الإسرائيلية لم يكن هكذا، حيث اشتهرت علاقات الاتحاد الأوروبي بإسرائيل بالبرودة منذ عقود. وخلال الانتفاضة الثانية، بذل الاتحاد الأوروبي جهدًا لموازنة دعم إدارة جورج دبليو بوش لحكومة أرئيل شارون، حيث كان الرأي العام الأوروبي حينها معاديًا.
وفي استطلاع للرأي عام 2003 أثار الكثير من الجدل، وصف 59 في المئة من الأوروبيين إسرائيل بأنها أخطر تهديد للسلام العالمي. كانت الاحتجاجات والدعوات للمقاطعة شائعة، لكن مع ذلك، تغير المزاج الأوروبي تجاه إسرائيل، وتحولت إلى دولة صديقة بسبب التقاء المصالح الاقتصادية، إضافة إلى صعود التيار الشعبوي في أوروبا الذي يميل إلى دعم قادة إسرائيل.
وفي السنوات الأخيرة، تحرك نتنياهو لتنمية العلاقات مع قادة أوروبا، وخاصة على الجانب غير الليبرالي، حيث اعتبرهم حلفاءه الطبيعيين.
وحظي رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان بترحيب حار في القدس في عام 2018، وهي الزيارة التي تعرضت لانتقادات محلية بسبب تاريخ الرجل القوي اليميني المتطرف في التودد ودعم معاداة السامية والمحرقة النازية، كما زار قادة شعبويون أوروبيون آخرون، مثل نائب رئيس الوزراء الإيطالي آنذاك ماتيو سالفيني، إسرائيل في عام 2018.
وأدان المؤرخ الإسرائيلي زئيف ستيرنهيل ما اعتبره رغبة نتنياهو في رؤية نفسه “كجزء لا يتجزأ من هذه الكتلة المعادية لليبرالية”. لكن اللهجة الأوروبية الأكثر ودية تجاه إسرائيل لا يمكن تفسيرها فقط من خلال علاقة نتنياهو الوثيقة مع عدد قليل من القادة الأوروبيين غير الليبراليين مثل أوربان، بما أن كل أوروبا تتحرك الآن لدعمه.
ويمكن لمزيج من الأسباب الاقتصادية والجيوسياسية والمحلية الأوروبية أن يفسر هذا التحول التدريجي الذي لا يمكن إنكاره.
ولم يغير الأوروبيون موقفهم الرسمي من الصراع وما زالوا يؤيدون استئناف عملية السلام وإنهاء الاحتلال وحل الدولتين تحت حدود 1967 كطريق للمضي قدمًا.
ويعد الاتحاد الأوروبي أهم مزود للمساعدات لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى والسلطة الوطنية الفلسطينية. وفيما اتبعت جمهورية التشيك والمجر خطوات إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب للاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، تعترف تسع دول أوروبية بفلسطين كدولة.
مع ذلك يلاحظ حداد أن القضية الفلسطينية تم استبعادها من أجندة الأولويات الأوروبية، وعلى الرغم من تصاعد العنف مؤخرًا، فمن النادر اليوم العثور على دبلوماسي أوروبي يدعي أن الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني هو المفتاح لحل جميع التوترات والصراعات في المنطقة، وهي وجهة نظر دينية تم تبنيها في المستشاريات الأوروبية في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
وإضافة إلى العامل الديني، فان أحداث ما سمي بـ”الربيع العربي” والحرب الأهلية السورية وعواقبها على أوروبا، بما في ذلك الهجمات الإرهابية وزيادة الهجرة، والملف النووي الإيراني كلها قادت إلى تغيير الأولويات الأوروبية في الشرق الأوسط.
واعترف العديد من الدبلوماسيين الأوروبيين سرًا بأن اتفاقيات إبراهام أضافت مسمارًا آخر في نعش تركيز أوروبا على إسرائيل وفلسطين. وبعد الاتفاقات في العام الماضي، تمت دعوة وزير الخارجية الإسرائيلي غابي أشكنازي لحضور المجلس الأوروبي في برلين، وهي المرة الأولى التي يُمنح فيها هذا التكريم لدبلوماسي إسرائيلي.
مصالح اقتصادية

بدأ الأداء الاقتصادي والتكنولوجي لإسرائيل في جذب الاهتمام الأوروبي، حيث كانت إسرائيل أول دولة غير أوروبية مرتبطة بسلسلة من الهيئات العلمية في الاتحاد الأوروبي مثل البرامج الإطارية للبحث والتطوير التكنولوجي والمنظمة الأوروبية للأبحاث النووية، المعروفة باسم “سيرن”.
وتعد إسرائيل أيضًا جزءًا من نظام الملاحة العالمي “غاليليو” التابع للاتحاد الأوروبي. وبعد فترة وجيزة من انتخاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في عام 2017، زار وزيرا الاقتصاد والشؤون الرقمية الفرنسيين تل أبيب، وهي مركز الابتكار الإسرائيلي، قبل أشهر من زيارة وزير الخارجية للبلاد.
وسبق أن أعلنت فرنسا سنة 2011 عن شراء طائرات مسيرة بقيمة 500 مليون دولار، منتهكة بذلك الحظر المفروض على الأسلحة لمدة 44 عامًا والذي بدأه الرئيس الفرنسي آنذاك شارل ديغول بعد حرب عام 1967. وفي عام 2018، اتبعت ألمانيا بعد أن وافق البوندستاغ على استئجار طائرات إسرائيلية مسيرة لمدة تسع سنوات، وهو عقد بقيمة 1.2 مليار دولار أشاد به نتنياهو باعتباره “يساهم في الأمن الأوروبي”.
وكلف الاتحاد الأوروبي العام الماضي كل من شركة إيرباص وشركتي طيران وفضاء إسرائيليتين بتحليق طائرات مسيرة فوق البحر المتوسط لمراقبة سفن تهريب المهاجرين.
لكن التغيير الرئيسي جاء من المجتمعات الأوروبية نفسها وهو رمز لتحول عميق في الداخل الأوروبي تجاه إسرائيل. ففي مواجهة الهجمات الإرهابية في السنوات القليلة الماضية، ربط الأوروبيون إسرائيل بشكل متزايد كدولة تواجه تحديات مماثلة.
ويتضح ذلك التقارب من تصريح أورور بيرجيه، النائبة البرلمانية عن حزب ماكرون “الجمهورية إلى الأمام” ورئيسة مجموعة الصداقة الفرنسية الإسرائيلية بأن “لدينا جبهة مشتركة مع إسرائيل: النضال ضد الإرهاب الإسلامي”.
وأضافت بيرجيه “أكثر من أي وقت مضى، هذا ما يقربنا وما يفسر التحول الدبلوماسي في أوروبا (تجاه إسرائيل)”.
ونقلت مجلة فورين بوليسي عن دامير ماروسيك، وهو زميل بارز بمركز “المجلس الأطلسي” البحثي بواشنطن في مقال حديث نشره بعنوان “بين بروكسل والقدس”، أن العاصمتين جسدتا تفاهمات متنافسة لإحساس الغرب بالتاريخ ومعنى الحرب العالمية الثانية والمحرقة.
فبينما دعت كوارث الحرب العالمية الثانية أوروبا إلى التعاون وانتهاج الحكم التكنوقراطي، كان المصير المأساوي لليهود في أوروبا سببا في اتجاههم للتغلب على عجزهم التاريخي وبناء أمة يهودية قوية تدعمها حدود وجيش قوي.
ومع اندماجهم في القارة، نظر الأوروبيون بشكل متزايد إلى نموذجهم الناجح كنموذج مستقبلي لبقية العالم، لكن الأمور لم تسر على هذا النحو، فقبل 15 عاما، كان مراقبون يحذرون من العزلة الدبلوماسية الإسرائيلية المتزايدة إذا فشلت في إيجاد حل دائم وسلمي للقضية الفلسطينية.
لكن هذه التنبؤات لم تتحقق، حيث تمتلك إسرائيل شركاء اقتصاديين مع أوروبا والولايات المتحدة، وأيضًا مع شراكات جديدة في الهند وروسيا وأفريقيا. وفي غضون ذلك، وفي ظل وجود الهجمات الإرهابية؛ ومخاوف الهوية والهجرة؛ يدعو القادة الأوروبيون الآن الاتحاد الأوروبي الجيوسياسي “للتحدث بلغة القوة”، وربما الإحساس بالتاريخ يميل نحو إسرائيل الآن وبقوة.