كورونا يعري الفوارق بين المناطق التونسية

تعكس الفوارق الكبيرة في الخدمات الصحية بين المدن التونسية حجم الوعود المتبخرة للحكومات المتعاقبة على حكم البلاد بعد ثورة يناير 2011 وفجوة اجتماعية تزداد اتساعا مع تفاقم الاحتجاجات المطلبية التي لا تجد آذانا صاغية غير المناسبات الانتخابية. وبعد تسع سنوات من الوعود السياسية لا شيء تحقق على أرض الواقع، ما ينذر باضطرابات اجتماعية في قادم الأيام.
تونس - عمقت أزمة فايروس كورونا إحساس سكان المناطق الداخلية في تونس بالتهميش وهو ما اتضح خاصة من خلال النقص الفادح في أسرة الإنعاش داخل المستشفيات، حيث كشفت الإحصائيات تركزها أساسا في مناطق الشمال والساحل.
وتستشعر السلطات والطبقة السياسية عموما مخاطر تحول هذا الشعور إلى غضب شعبي قد ينفجر في أي لحظة، لاسيما في ظل الاحتقان في مدن الجنوب على غرار منطقة الكامور الغنية بالنفط وبقية المدن الداخلية الثرية بالموارد الطبيعية.
ويتهم سكان المناطق الداخلية نظام الرئيسين الراحلين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي بتهميشهم مقابل النهوض بالشمال والساحل خاصة مدينتي سوسة والمنستير مسقط رأس الرئيسين.
وبعد سقوط نظام بن علي تعهد الإسلاميون بوضع حد للتوزيع غير العادل للثروة، ويرى كثيرون أن الدعم الذي يحظون به في بعض المناطق الداخلية وخاصة في الجنوب مبني على آمال سكان تلك المناطق بأن تحسن الحركة أوضاعهم باعتبار أن زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي ينحدر من مدينة الحامة جنوب البلاد، وهو ما لم يتحقق طيلة تسع سنوات من حكمها.
وجاء في البرنامج الانتخابي لحركة النهضة العام الماضي أنها ستعمل على مكافحة الفساد ومقاومة الفقر ودعم الفئات الهشة ومتوسطة الدخل وثالثها تطوير التعليم والصحة والمرافق العمومية والنهوض بنسق الاستثمار وتركيز الحكم المحلي. ولا يختلف برنامجها الانتخابي لسنة 2011 عن برنامج 2019.
وجدد وزير الصحة عبداللطيف المكي المنتمي إلى حركة النهضة هذه الوعود الأحد، قائلا “المنظومة الصحية ستتغير بعد انتهاء ملف كورونا بتونس”، مضيفا “سنمحو الجهويات بالممحاة وسيكون لكل تونسي الحق في العلاج بأفضل الطرق”. وكشفت وزيرة الصحة التونسية السابقة سميرة مرعي وجود 240 سرير إنعاش فقط في جميع المستشفيات العمومية جلها متمركز بمدن الشمال والساحل.
وحسب تقرير أصدرته الجمعية التونسية للدفاع عن الحق في الصحة، يبقى عدم المساواة في الخدمات الصحية العائق الأكبر. حيث أن سكان الجنوب والوسط يشتكون من عدم ولوجهم إلى مرفق صحي قريب، وإذا ما بلغوه فإنه لا يتكفل بتلبية حاجياتهم ولا يلائم تطلعاتهم.
وحذر رئيس حركة مشروع تونس محسن مرزوق من خروج التونسيين من هذه الأزمة منقسمين أكثر، لافتا إلى أن معاناة التونسيين ليست نفسها اليوم فهناك من يشكو العزلة ومن يشكو العزلة والفقر معا. وتابع “هذا أخطر شيء ممكن أن يحدث بأن يصبح لدينا بلدان في بلد واحد”.
ويشتد ضعف القطاع الصحي وما يعانيه من مشكلات أكثر في الجهات الداخلية للبلاد، التي تعاني أغلب مستشفياتها من نقص حاد في التجهيزات وأطباء الاختصاص كأطباء التخدير والإنعاش.
ومثلت الوعود التنموية لحركة النهضة منذ 2011 خزانا انتخابيا أخد في التآكل بعد تبخر هذه الوعود واتساع هوة الفوارق الاجتماعية، إذ أن مدن الجنوب والوسط التي توجد فيها أغلب الثروات الطبيعية تتذيل سلم الخدمات الاجتماعية والصحية.
ويشير مراقبون إلى أن الفوارق الاقتصادية والاجتماعية وانعدام التوازن في توزيع الثروات بين الجهات شكلت أهم أسباب اندلاع ثورة 14 يناير والإطاحة بالنظام السابق، ومنذ ذلك الوقت تمحورت مجمل التحاليل والخطابات السياسية حول البعد الجهوي في تونس بعد الثورة وتعدد التشخيص وكثرت الحلول النظرية.
ولكن بين التنظير والواقع يبدو أن شيئا لم يتغير وظلت الأوضاع على حالها بدليل تواصل الاعتصامات والحركات الاحتجاجية في العديد من الجهات التي تطالب الحكومات بإيجاد حلول عاجلة وسريعة للإشكاليات العالقة على مستوى المرافق الأساسية والبنية التحتية المتردية.
وتواصل الحكومات الإعلان عن العديد من المشاريع داخل الجهات المحرومة ولكن هذه الوعود ظلت حبرا على ورق ولم يقع إلى حد الآن تدشين أي مشروع فعلي في المناطق الداخلية بطريقة تكون إشارة قوية من الحكومة على “الصدق في القول”.
وفي سنة 2013 أعلنت حكومة حركة النهضة عن عدة مشاريع تنموية في مدينة مدنين الحدودية مع ليبيا أبرزها إنشاء كلية طب حيث بقي القرار حبرا على ورق ولم يتجاوز ذلك، فيما يؤكد مراقبون أن القرار جاء لإسكات متساكني المدينة بعد الحملة والتحركات التي شهدتها للمطالبة بهذه الكلية.
وتزداد الفجوة الاجتماعية بالاتساع بين السياسات التي يصرّح بها أصحاب السلطة وتوقّعات المجتمعات المحلّية، مع تفاقم الفقر في البلاد ووصول معدلاته إلى مستويات مرتفعة.
وأظهرت دراسة اجتماعية ميدانية أعدها مركز الدراسات الاقتصادية والاجتماعية بالتعاون مع الجامعة التونسية أن رقعة الفقر توسعت خلال السنوات الأربع الماضية بنسبة 30 في المئة بعد أن تآكلت الشرائح السفلى من الطبقة الوسطى وفقدت موقعها الاجتماعي لتتدحرج إلى فئة الفقراء نتيجة التحولات الاقتصادية وتداعياتها الاجتماعية في ظل نسق تصاعدي مشط لارتفاع الأسعار مما أدى إلى بروز “ظاهرة الفقراء الجدد” بعد أن تدهورت المقدرة الشرائية لتلك الشرائح بشكل حاد.
وتقول الدراسة التي شملت 5300 عينة موزعة على كامل أنحاء البلاد إن الفقراء الجدد يمثلون نسبة 30 في المئة من العدد الجملي لفقراء تونس البالغ عددهم نحو مليوني فقير من جملة 12 مليونا عدد سكان تونس.