كه يلان محمد لـ"العرب": الفقيه والمثقف وجهان لنسق واحد

كلما استفحلت النكبات يتصاعد إصدار الروايات.
الخميس 2025/06/12
المثقف مشارك في صناعة الأمجاد الخرافية

توجيه الجهود لمتابعة الساحة الأدبية والفكرية وما يُكتَب برؤية عميقة رهانها الجودة والتنوير، هو أمر بالغ الأهمية اليوم في بيئة اختلت فيها المعايير بشكل مفزع. وهذا ما يكرس له الكاتب العراقي كه يلان محمد اهتماماته، إذ يواظب على تقديم القراءات للنصوص الأدبية باحثا عن طبيعة الأرضية الثقافية. "العرب" كان لها معه هذا الحوار حول مشروعه ورؤاه.

خالدة مختار

أصدر الكاتب كه يلان محمد مؤخرا كتابيه “كهف القارئ”، وقبله “مأدبة السرد”، وهو يرى أن مشروع الكتابة يأتي لاحقا بعد تجربة القراءة واكتشاف المضمار الذي يستهويك أكثر، والكتابة نوع من الاختبار لمستوى الفهم والتفاعل مع النصوص وتوظيف الرصيد المعرفي للمساهمة في صياغة أسئلة جديدة، وإدراك مراوغة الخطاب وأبعاده اللامرئية.

يقول محمد “إذا كانت القراءة تمثل اختيارا شخصيا بعيدا عن القسر والإلزام فإن الكتابة هي محاولة لمشاركة حصيلة قراءاتك مع الآخر وهذا الرأي ينطبق على الكتابة النقدية.”

الأدب والفلسفة

يلفت كه يلان محمد إلى أن كتابه “كهف القارئ” ليس كتابا نقديا بالمعنى المتعارف عليه أكاديميا أو تقنيا، مشددا على أن ما يمكن أن تجده بين دفتيه هو الإضاءات لفن الرواية وعلاقة هذا الجنس الأدبي بغيره من الأشكال والأنواع الفنية الأخرى، إضافة إلى الاهتمام بالبنية التواصلية في العمل الروائي ومواكبته لتحديات واقعية وبيئية.

ويقول لـ”العرب”: “لا شك أن الرواية لم تعد مجالا للتسلية والمتعة فحسب بل أصبحت مصدرا للمعرفة العلمية والتاريخية كما ساهمت في نشوء وعي غير تقليدي ومرونة عقلية لأن الرواية بطبعها مشاكسة تمرر أفكارا جدلية وتفتح المجال للأسئلة الإشكالية بشأن التاريخ والسياسة والمسلمات اللاهوتية. بخلاف ما يذهب إليه بعض المذاهب الأدبية حول ضرورة قراءة النص على اعتبار أنه وحدة مستقلة يجب دراسته بعيدا عن طيف المؤلف. فإن القارئ لا يكتفي بالنظر إلى طبقات النص الأدبي إنما يهمه استكشاف مكونات المحترف الإبداعي وذلك يكون غالبا من خلال الحوار أو المعلومات التي يعلن عنها المؤلف حول خطه في الكتابة”.

أما كتاب “مأدبة السرد” فينزل، وفق مؤلفه، ضمن المساعي الكاشفة لآراء وخلفيات معرفية لعدد من الكتاب الذين قرأ أعمالهم واتخذ منهم موقع المحاور.

على غير الكتاب الآخرين الذين اهتم بهم نقديا، تبدو علاقته بألبير كامو مميزة جدا، يعلّق محمد على ذلك قائلا “ما يجدر بالتأمل في كتابات وآراء كامو هو محورية الإنسان وعدم تقيده بالإطار الأيديولوجي. بعد طرده من الحزب الشيوعي الجزائري وتكرار السيناريو نفسه مع الحزب الشيوعي بنسخته الفرنسية قال ‘أنا منبوذ من السياسة لأنني غير قادر على الرغبة أو القبول بموت الخصم‘، إذن كان كامو صادقا في موقفه لم ترق له المراوغة في ملعب السياسة لذلك تحمل العزلة وابتعد عن الجموع المتحرك بإيحاءات أيديولوجية.”

كتاب “مأدبة السرد” فينزل، وفق مؤلفه، ضمن المساعي الكاشفة لآراء وخلفيات معرفية لعدد من الكتاب الذين قرأ أعمالهم واتخذ منهم موقع المحاور
◙ "مأدبة السرد" ينزل ضمن المساعي الكاشفة لآراء وخلفيات لعدد من الكتاب الذين قرأ كه يلان محمد أعمالهم واتخذ منهم موقع المحاور

ويؤكد أن الأهم في تكوين كامو الشخصي هو عدم التهافت على الألقاب إذ رفض بأن يصنف في معشر الفلاسفة، واحتفظ بحنينه للفعاليات التي تزيده شعورا بالتضامن الإنساني بعيدا عن التسميات السياسية والفئوية. وكان جريئا في جهره بأن الشيوعية السوفييتية تسحق الإنسان تحت يافطة الوعود بمستقبل يخلو من الاضطهاد الطبقي. لم يستسغ المعادلة التي تفيد بأننا يمكن أن نكون مجرمين من أجل مستقبل ينتهي فيه الإجرام. واختلف كامو، كما يبين محمد، في نظرته لمفهوم الثورة عن الاعتقاد السائد بأن يكون الهدف من الحراك الثوري هو نزع السلطة من فئة ومنحها لفئة أخرى، فبرأيه أن الثورة تقوم لإعطاء فرصة للحياة.

ويتابع “من الخطأ أن يفهم انتقاده كامو اللاذع للشيوعية السوفييتية بأنه كان مؤيدا للقطب الرأسمالي، لأنه خلال رحلته إلى أميركا لاحظ بأن الناس في هذا البلد على الرغم من البذخ وبذل كل شيء يشعرون أن شيئا ما ينقصهم. ويستمد كامو مصداقيته من استنكاره لكل ما يصادر اختيارات الإنسان وفرصته الوجودية، صحيح أنه كان مناهضا للمحور في الحرب العالمية الثانية، لكن ذلك لم يمنعه من إدانة جريمة هيروشيما وناغاساكي معلنا بأن حضارة الآلة قد حققت أقصى درجات الوحشية. تفيدنا العودة إلى مؤلفات كامو لرصد الثغرات التي يتسرب منها طاعون الأفكار الشمولية لا يهم إن كانت هذه الأفكار مغلفة بلبوس شيوعية أو رأسمالية أو دينية أو ربما علموية.”

تبحث الفلسفة عن الحقيقة متجاوزة الوهم. في حين يعيد الأدب بناء العالم بالابتداع والإيهام بالحقيقة، ومع ذلك فإن رابطا –ضعيفا أو قويا- قد جمع بينهما في الإنتاج الإنساني (“هكذا تحدث زرادشت” مثلا). تسأل “العرب” محمد عن تعامل الأدب العربي عموما مع الفلسفة، وكيف يرى الوشائج بينهما؟

يجيبنا “صحيح هدف الفلسفة يتمثل في الخروج بالعقل من نفق الأوهام، وإثارة الشكوك باستمرار حول الصيغ المتداولة والوثوقيات الراسخة في تربة الواقع. ولا يختلف المبحث الفلسفي القائم على استمرارية الجدل عن المشروع الأدبي الهادف إلى تقويض السردية الأحادية. تشترك كل من الفلسفة والأدب في مزاحمة مهيمنات تشدد على تدجين العقل ومحدودية الخيارات وينتهي الأمر بالانسداد الفكري والتراوح في مربعات الوصايا. ينتفض الأدب والفلسفة على هذا المخطط المختوم باليقينيات. بالتأكيد لا يخلو الأدب من النفس الفلسفي كما ترحب الفلسفة بنفحات الأدب ما يؤكد وجود قاعدة تجمع بين الفلسفة والأدب في الحراك الثقافي العربي هو رموز قد أبلوا بلاء حسنا في معتركين أمثال المعري، التوحيدي، النفري. كذلك من المحدثين نجيب محفوظ، أدونيس، المسعدي.”

المجتمع الذي يتخلى عن الفلسفة هو مجتمع يتخلى عن فرصته في التحضر الحقيقي، يعلق محمد على هذا الرأي قائلا “تعلمنا الفلسفة أن نتجرأ على إثارة الشكوك في جدوى الفلسفة. من الخطأ النظر إلى المعرفة عموما وإلى الفلسفة على وجه الخصوص نظرة آلية خلاصية، لأن الصيرورة هي من مقومات العقل الفلسفي والتواصل مع المعطيات الفكرية والفلسفية يجب أن يكون مبنيا على مبدأ التوليدي وليس استهلاكا للمفاهيم، فبالتالي من الأجدر القول إن المجتمع الذي يستقيل عن فعالية التفكير الحر ويكتفي بالنقل والتوريد والاستهلاك يكلل مسيرته بالتيه والدوران في حلقة الانتكاسات.”

المثقف وطموح الكاتب

“كهف القارئ” ليس كتابا نقديا بالمعنى المتعارف عليه أكاديميا أو تقنيا، مشددا على أن ما يمكن أن تجده بين دفتيه هو الإضاءات لفن الرواية وعلاقة هذا الجنس الأدبي بغيره من الأشكال والأنواع الفنية الأخرى
◙ "كهف القارئ" ليس كتابا نقديا بالمعنى المتعارف عليه أكاديميا أو تقنيا وما يوجد بين دفتيه هو إضاءات لفن الرواية 

التمثيل الديني في الدول العربية (وكل أنواع المقدس عموما)، يعارض استيراد المنتج الفلسفي من الخارج، وفي الوقت نفسه لا يسمح بإنتاج أنماط تفكير أخرى غير ما يقول به هو. نسأل محمد هل أثر ذلك على الفكر عموما وعلى الرواية خصوصا؟ وبالتالي على الناقد؟ ليجيبنا “الثقافة العربية ليست حديثة العهد بالفلسفة، بل مشاركات الفلاسفة العرب يشهد لها على المستوى العالمي بالتأثير اللافت في النهوض بالفكر وانبلاج لحظة التنوير الأوروبي، لكن السؤال الملح الذي يأخذ بتلابيبنا هو لماذا نجح الغرب في عبور العصور المظلمة فيما العالم العربي غارق في الأزمات المزمنة؟”

ويضيف “لا يمكن فهم هذه الحالة من زاوية الاختلاف بين العقل الديني والعقل الفلسفي فحسب. لأن المنضوين تحت لواء الفلسفة يعيدون إنتاج النسق اللاهوتي بغلاف حداثي، فهذا جوهر المشكلة، والأهم في هذا السياق ليس الحديث عن الموروث الفقهي المناهض للفلسفة لأن معظم الفقهاء الذين حاربوا الخطاب الفلسفي سابقا قد انخرطوا في معترك الفلسفة فعليا وتمكنوا من أدواتها بالامتياز، بل يجب نقد آلية التفكير السائد في الخطابات المعاصرة سواء بحلتها الدينية أو الحداثوية، لأن الفقيه والمثقف وجهان لنسق واحد من التفكير في واقع موبوء يحكمه الحس الاستعراضي.”

ويتابع “أما بالنسبة إلى النص الروائي فهو ممر قد تتوارد منه الأفكار الصادمة والأسئلة الانفجارية ونجح نفر من الروائيين في تحطيم الجدار بين ملعب الفكر وملعب الأدب. كما أن الرواية تتحرك بمنطق يتغذى على الأزمات لذلك ترى كلما استفحلت النكبات يتصاعد إصدار الروايات ويقرأ النص الروائي أكثر لأنه عزاء يصاحبه الوعي بالحالة.”

نتطرق مع محمد للحديث عن تأثيرات الإخفاق السياسي المتكرر، الذي ألقى بظلاله على الواقع الثقافي، ونسأله هل دفع ذلك الأديب العربي (والمثقف عموما) إلى الكف عن المغامرة الوجودية والاكتفاء بخدمة الذات الكاتبة (الجوائز، المهرجانات..)؟

يقول محمد “المثقف متواطئ مع السياسي في تعميق الأزمة ولم يتعاف إلى الآن من الأوهام المنتفخة والكلام لا يكون افتراء على هذه الفئة إذا قلت إن المثقف قد أصبح دوره يضاهي وظيفة مدير مكتب العلاقات العامة للزعامات السياسية. فماذا تنتظر من الذي يمارس كل أنواع الفهلوة تحت يافطة الفكر والتنوير والرأي الحر، غير مراكمة الأزمات. والأسوأ من ذلك، المثقف مشارك فعال في صناعة الأمجاد الخرافية، لذلك يلاحظ بأن مصداقيته دون درجة الصفر. لأنه ملحق وليس مستقلا مروج وليس صانعا للحدث ويوظف رأسماله المعرفي الضحل لتسويق ما يجعله في الواجهة، ويفسح له المجال على الخشبة.”

أما عن طموحاته بصفته كاتبا وناقدا وأحلامه بصفته إنسانا، فيقول الكاتب العراقي “طموحات الإنسان في عصر حافل بالأوبئة هي أن يبقى معافًى ولا يصاب بما ينتقل به نحو صورة ممسوخة للذات. بالتأكيد أبحث عن العناصر المحفزة للاستمرار في الكتابة والقراءة لأن هذا المجال لم يعد ممرا فحسب إنما محاولة للتدبير الوجودي. أستسمحك فإن لدي الكثير من التحفظ على مصطلح الناقد. لا يُدرَج ما أكتبه في إطار النقد بل هو لعبة مع النص.”

12