"كهف الألواح" مغامرة لانهائية تتأمل في فعل الكتابة الروائية وحدود الخيال

لقد تحولت الروايات العربية المعاصرة عن الحكي والسرد الخطي والرغبة في بناء خطاب رسائلي ما، إلى مغامرة كتابية ممتعة ومعقدة في آن، حيث تصبح الكتابة رحلة مثيرة تكسر الحواجز بين الخيال والواقع وتستنطق الأفكار والتأويلات والقراءات، لتتعدد بالتالي مساراتها. وهكذا هي رواية الكاتب المغربي محمد سعيد احجيوج “كهف الألواح”.
ابتسام المنصوري
تجسد رواية “كهف الألواح” (2024) للروائي المغربي محمد سعيد احجيوج، الصادرة في بيروت عن دار هاشيت أنطوان، تجربة سردية استثنائية ومبتكرة على مستوى الشكل والمضمون معا، تتميز بتعدد الأصوات والرؤى وتداخل الأزمنة والأمكنة وتشابك الحكايات والذوات، مما يجعل من عملية تلخيصها أو اختزالها في بضع كلمات مهمة شبه مستحيلة. فهذا العمل الروائي المتفرد يقاوم بطبيعته أي تبسيط أو اختزال، حيث يتشكل كنسيج معقد ومتشابك من الخيوط السردية والرمزية والسيكولوجية، يصعب فصلها أو ردها إلى حكاية واحدة خطية.
على المستوى الظاهري، تتمحور الرواية حول شخصية “خلود” التي تستيقظ على كابوس صادم فاقدة لجزء من ذاكرتها، لتنطلق في رحلة بحث محمومة عن هويتها وذاكرتها الضائعة، عبر كتابة متاهية لتجاربها وتداعياتها، تتقاطع فيها حكايتها مع حكايات لشخصيات أخرى (إيزل، آزاد). وتنتهي الرحلة / الرواية باكتشافها المؤلم لحقيقتها المأساوية في كهف الألواح الأسطوري.
الوعي الميتاسردي
خلف هذا الملخص شديد الاختزال، يكمن نص روائي بالغ الثراء والتعقيد، متعدد الدلالات والأبعاد، يستعصي على القراءة أحادية المنظور. فالرواية، من خلال تشظي بنيتها السردية وتعدد الأصوات فيها وكثافتها الرمزية والتناصية، تصبح أشبه بمتاهة تأويلية، تستدعي تضافر عدة مقاربات نقدية وتأويلية لاستنطاقها واستكشاف ثرائها. لكني اليوم سأكتفي بالمقاربة الميتاسردية لتحليل جوانب التأمل الوجودي في فعل الكتابة الروائية، على أمل أن أعود مستقبلا لتغطية جوانب تأويلية أخرى ومقاربات مختلفة للرواية.
لا تكتفي رواية “كهف الألواح” بكونها سردية للذات وسبر أغوارها النفسية وتمثيلا لتمزق الهوية الجماعية وصدماتها التاريخية، بل تتحول أيضا، عبر مراوغتها السردية المدهشة وعبر توظيفها المكثف لتقنيات الميتاسرد وتداخل الحكايات والأصوات، إلى تأمل جمالي عميق في طبيعة الكتابة الروائية ذاتها ووظيفتها، وفي جدلية العلاقة المعقدة بين الكتابة والواقع، السرد والحياة، المتخيَل والحقيقة.
فالبنية المركبة والمتشظية للرواية، حيث تتعدد مستويات السرد وتتداخل، وحيث تتقاطع حكايات الشخصيات وأزمنتها في نسيج لولبي متشابك، تدفعنا منذ البدء إلى طرح أسئلة حول هوية الراوي ومصداقيته، وحول موثوقية الحكاية المسرودة ذاتها. من يروي هنا، ومن منظور من؟ وكيف يمكن التمييز بين ما هو واقعي وما هو متخيَل في السرد؟ هل خلود هي الساردة الأصلية لكل الأحداث وهل حدث كل المحكي فعلا أم هو مجرد أوهام وأضغاث أحلام؟
إن إثارة هذه الأسئلة حول المصداقية السردية هو دعوة أولا لمساءلة وهم الحقيقة وشفافية اللغة والكشف عن مدى الطبيعة الاصطناعية للحكي وسطوته التمويهية. فالسرد، كما تجسده لعبة الأصوات المتشابكة في “كهف الألواح”، ليس ناقلا محايدا للواقع أو عاكسا سلبيا له، بل هو ذاته خالق له.
وفي قلب هذا الخلق، أو الصناعة السردية، تقبع الشخصيات ذاتها لتتحول، في فضاء الرواية، إلى كيانات لغوية بامتياز، تتشكل وتُصاغ وفق أهواء الكاتب ورؤيته. ويُعبر عن هذا بشكل لافت أحد مونولوغات خلود: “لكن دعني أخبرك: ماذا لو كنتُ شخصية في رواية يقودها كاتبٌ ما وحين تعذر عليه المواصلة بضمير الغائب، وتكاسل عن العودة إلى الوراء لتحرير ما سبق، أنطقني بما نطقتُ به أعلاه مبررا ذلك الحديث بحاجز وهميٍ يعوق التذكر؟” في هذا المقطع اللافت، يعري النص ذاته ويفضح أسراره، كاشفا عن مفارقاته وتناقضاته الداخلية، وعن كونه في النهاية مجرد بناء لغوي.
ولعل أبرز تجليات هذا الوعي الميتاسردي الحاد في الرواية، تتبدى في توظيفها للعبة “النص داخل النص” أو “الرواية داخل الرواية”، حيث يُكتشف تدريجيا أن أجزاء كبيرة من المحكي هي في الواقع مقتطفات من رواية يكتبها هشام، زوج إيزل السابق، والتي يغدو بطلها المحرك لأزمتها لا أحد سوى عدنان نفسه، الشخصية المحورية المتخيلة في سرد خلود.
هذا التداخل الجامح بين المستويات السردية، وهذا التشابك بين الشخصيات “الواقعية” و”المتخيَلة” في آن، ليفضي بنا، إلى حالة من غياب التمييز بين الحقيقي والمتخيَل، حيث يصبح كل شيء محض محاكاة لا مرجع لها، ونسخة طبق الأصل عن نفسها إلى ما لا نهاية، وحتى الرواية نفسها تشير إلى هذه الفكرة بالذات في فصل “مفارقة الوجود” حيث يشير الروائي، بصوت خلود، إلى فكرة التوليد الذاتي وبأن تكون الرواية قد كتبت نفسها بنفسها.
وفي خضم هذه المحاكاة اللامتناهية، هذا “الحلم داخل الحلم” الذي لا يقود إلا إليه، نجد أنفسنا، في العمق، أمام تساؤلات كبرى حول هشاشة الوجود الإنساني برمته، وعبثية البحث عن حقيقة نهائية وسط دوامة العالم ومتاهاته. فكأن الحياة ذاتها، بكل تناقضاتها وطقوسها المتكررة، ما هي في الحقيقة، كما يشي العنوان، إلا “كهف للألواح”، يخط عليها القدر حكاياتنا الملتبسة ويحكم علينا بترديدها وتكرارها إلى الأبد، كما تتكرر استيقاظات خلود من الحلم عينه.
هكذا، فإن غوص نص “كهف الألواح” الشجاع في أعماق اللعبة السردية ومراوغاتها، وتفكيكه لبنيته الداخلية وأسئلته الوجودية الصعبة، إنما هو في الحقيقة محاولة عميقة لسبر ماهية الكتابة الروائية وقدرتها (أو عجزها) عن الإمساك بالواقع والذات الإنسانية في تشظيها وتشابكها.
ويمكن القول إن كل رواية عظيمة، في نهاية المطاف، إنما هي رواية عن الرواية وبحث لا ينتهي عن كنه الكتابة السردية وحدودها في تمثيل العالم والحياة. وهذا تماما ما ينجح محمد سعيد احجيوج في تحقيقه ببراعة فائقة، عبر مغامرته الميتاسردية المدهشة، ليقدم كهف الألواح كـ “رواية الروايات” بامتياز، وتأمل إبداعي شجاع في سحر السرد وسطوته وهشاشته في آن، ونص يشي بما وراء النصوص جميعا، ويوغل في البحث عن المعنى خلف دوامة الحكايات والألغاز والمتاهات التي لا تنتهي.
مغامرة الكتابة
إن رواية “كهف الألواح” للروائي المغربي محمد سعيد احجيوج ليست مجرد نص سردي يحكي قصة أو يستكشف موضوعا بعينه، بل هي في جوهرها احتفاء راق بالكتابة الروائية ذاتها، وبقدرتها الخلاقة اللامتناهية على خلق العوالم وتشكيل الحكايات وصياغة المعاني. فهذا العمل الروائي، من خلال بنائه المتقن والمحكم في تشظيه المدروس، ومن خلال لعبه الماهر على وتر السرد وحبكته، ومراوغته المتقنة بين الواقع والمتخيَل، يقدم نفسه كدعوة دائمة للتأويل والقراءة، وكنص يفتح نوافذه على كل الاحتمالات الدلالية والرمزية.
فكهف الألواح الروائي، بكل تعدد أصواته وتنوع مستوياته وتداخل أزمنته، يشبه ذلك الكهف الأفلاطوني الشهير، حيث الحقائق ليست سوى ظلال على الجدار، والمعاني ليست إلا انعكاسات على صفحة الماء. فلا شيء نهائيا أو يقينيا أو مطلقا في عالم الرواية، لا الشخصيات ولا الأحداث ولا حتى الحكاية الإطار ذاتها.
فهل ما تعيشه خلود، بطلة الرواية ومحور فعل السرد، هو الحقيقة أم مجرد نسيج من الأضغاث والأوهام؟ هل عدنان وإيزل وآزاد كائنات حقيقية أم هم شظايا وامتدادات لذات خلود المنشطرة؟ وهل خلود نفسها شخصية “واقعية” أم بطلة متخيلة في رواية يكتبها هشام أو خلود أخرى؟ كلها احتمالات قائمة، وتأويلات لا تلغي بعضها البعض، بل تتعايش وتتكامل في فضاء الرواية المتسع والمنفتح.
إن تلك النهاية اللافتة والمفتوحة للرواية، حيث تنطق خلود / آزاد تلك العبارة التوراتية العميقة “ليكن نور فكان نور”، لا تحيل فقط إلى فعل الخلق الإلهي الأول في سفر التكوين، بل تشي أيضا، في سياق السرد، إلى قدرة الرواية الخلاقة على إعادة تشكيل العالم وصياغة الوجود الإنساني من جديد.
فعبر الكتابة والتخييل، وعبر ذلك النور السردي، نعيد إنتاج ذواتنا وحكاياتنا كل مرة، في حركة لا متناهية من الخلق والتجدد. وهذا، في جوهره، هو رهان رواية “كهف الألواح” الأكبر: أن تضيء بكلماتها عتمة الوجود، وأن تخلق بحكاياتها حياة بديلة ممكنة، رغم كل القسوة والعبث والظلام.
هكذا تغدو رواية احجيوج، بكل ما تحمله من طاقات سردية وفلسفية هائلة، وبكل ما تثيره من أسئلة جمالية ومعرفية عميقة حول علاقة الذات بالعالم والكتابة بالوجود، نصا يؤسس لتحول نوعي في مسار الرواية العربية المعاصرة. إنها رواية، ببنائها المحاكي لهيكلة سيمفونية موسيقية رباعية الحركات، تدفع بالشكل الروائي إلى أقصى حدود المغامرة الممكنة، وتنقله إلى آفاق جديدة من الجرأة الموضوعية والتجريب الفني المتطرف الذي لا يساوم. فتغدو بذلك معادلا فنيا وجماليا لرحلة الإنسان الأبدية، بحثا عن ذاته وعن موقعه في الكون وعن معنى لوجوده، رحلة لا تكف عن طرح الأسئلة ولا تتوقف عن خوض غمار المجهول.