كنز داخل عين أخي

في المجتمع التونسي وبعض المجتمعات المغاربية والأفريقية يسود معتقد خرافي بأن حاملي العلامة السوداء في العين هم مفتاح للكنوز القديمة المدفونة.
الأربعاء 2023/06/14
خرافات مشحونة عاطفيا بعيدا عن جمال الخالق

يتحلى البشر على عكس الكائنات الحية الأخرى بقدرة عجيبة على "اختلاق" الخرافات المشحونة عاطفيا، لتفسير ما يكتنف حياتهم من غموض، وخلق عالم من المعتقدات الوهمية الموازية للحقائق، وسرعان ما تتحول تلك الخرافات إلى مسلمات.

والأمثلة كثيرة بخصوص الخرافات التي شكلت أنموذجا متطرفا من الأكاذيب وجعلت ما يقال بشأنها أكثر صوابا حتى من الحقائق نفسها، حتى عندما يكون ما نعرفه  يتناقض مع تلك الأشياء الوهمية، لكنه قد يحل محل الحقيقة، ويتحكم في حياتنا ويملي علينا أفعالنا، بل إن تدقيقنا في الحقيقة قد ينحرف أحيانا عن مساره، فنصبح غير قادرين على التمييز بين الخطأ والصواب، بحكم نشأتنا داخل أوساط اجتماعية تعطينا يوميا "وجبات منتظمة" من المعتقدات الخاطئة، إما عن حسن نية أو بشكل عرضي، وكل ما نستطيع فعله هو الانصهار بشكل لا شعوري تقريبا مع آراء من يتشاركون معنا في نفس القيم والاهتمامات، وهو ما يجعل من العسير على الكثيرين منا انتزاعها من دواخلنا.

وأنا واحدة من جيل نال نصيبا كبيرا من ولائم الخرافات الشعبية وحكايات الأجداد، خلال سنوات طفولته، كما لم يحدث من بعد مع جيل الألفية، الذي تشكلت بعض أفكاره ومفاهيمه، من خلال وسائل التكنولوجيا الحديثة، لكن الانتشار الهائل للمعلومات المرتبطة بالثقافة الرقمية، لا يعني بالضرورة أننا نعيش عصر الأمن المعرفي، أو أن في مقدورنا كشف الادعاءات غير المدعومة ببراهين أو الأفكار غير الصحيحة.

من بين الخرافات الأكثر رعبا وسخفا بأتم معنى الكلمة، والتي حرمت أسرتي الأمن والطمأنينة لسنوات طويلة، هو ولادة شقيقي الأكبر بصفة وراثية نادرة في العين، ويشاع بأن لديه قدرات استثنائية، لاسيما بعد أن أثيرت في ذلك الوقت - ولا تزال قائمة إلى اليوم - الكثير من المخاوف بشأن الأطفال الذين لديهم علامات في العيون يستدل بها على الكنوز المطمورة في الأرض.

من سوء حظ شقيقي أنه ولد بشامة بنية داخل بياض عينه اليسرى، مثله مثل الكثير من الأشخاص الذين لديهم حبة خال في العين، وهي خلايا صبغية قد تظهر في مقدمة العين، أو في الجزء الأبيض منها، نتيجة تجمع شاذ وغير منتظم للخلايا الميلانينية.

لكن في المجتمع التونسي وبعض المجتمعات المغاربية والأفريقية بشكل عام، يسود معتقد خرافي بأن حاملي العلامة السوداء أو البنية الغامقة في العين، هم مفتاح للكنوز القديمة المدفونة، ما جعل أمي لا تهدأ أو يرتاح لها بال، إذا أراد شقيقي اللعب مع أقرانه أو تأخر أثناء عودته من الدراسة.

راجت في تلك الفترة الكثير من القصص عن حوادث خطف الأطفال من عصابات التنقيب عن الكنوز والمشعوذين، الأمر الذي أثار مخاوف أمي، وجعلها تحرمه في أحيان كثيرة من الخروج إلى الشارع خوفا من أن يتم اختطافه لاستخراج الكنوز التي أصبحت تحت سيطرة الجن، أو "متوكل عليها مانع" كما يقال في اللهجة التونسية، ومن الصعب استخراجها من دون تقديم صاحب شارة العين قربانا لذلك الجن.

ما كانت تردده أمي من مخاوف وتحذيرات داعب عقل شقيقي، فأطلق العنان لبوصلة خياله، وربما وضع نفسه في سياق قصة مرعبة مترابطة الأجزاء، فقد تخيل أنه استهدف بالفعل من قبل أحد الأشخاص تبعه فور خروجه من المدرسة إلى باب المنزل، الأمر الذي جعل أبي يعيّن نفسه حارسا شخصيا لشقيقي، يرافقه يوميا إلى باب المدرسة، ثم يعود لاصطحابه إلى البيت بعد نهاية الدروس، إلى أن كبر أخي وتزوج، لكن نصائح أمي مازالت ترافقه في كل درب وتلزمه الحذر من الغرباء.

شخصيا كان لدي حماس كبير لمعرفة إن كان في عين أخي كنز بالفعل، لذلك كنت أطيل النظر في عينه طويلا، لكن بعد أن كبرت أدركت أن الخرافات تُستخدم كهراوات لترسيخ الطاعة والخوف في النفوس.

18