كما تؤكد رواياتنا.. العرب حالة غير تاريخية في ملعب الأمم

الفانتازيا تبدو ليست بعيدة عن واقع الشرق العربي وأن ما تخيله الإغريق وبعدهم الرومان جزء من الحقيقة.
الأحد 2025/03/23
وجوه السياسة العربية وأقنعتها (لوحة للفنان عمران يوني)

لم يقصر المسافة بين البعثيين غير أميركا، فقد عجلت نهاية صدام بحذف نصف البعث من بغداد، وأبقت على نصفه الثاني في دمشق حتى نهاية عام 2024. ولا أعلم ماذا تعني هذه الأعجوبة. هل يجب التحالف مع الشيطان؟ كانت لدى البعث دائما أيديولوجيا تكفيرية تجاه الغرب الأميركي على وجه الخصوص. ولم يحاول أحد إخفاء هذا الموقف الديكارتي. وكانت الحكمة تؤكد أن ما نراه ليس هو الحقيقة.

كانت المشكلة الأساسية بإسرائيل. وفي كل حرب نخوضها كنا نكرر نحن لا نقاتل اليهود ولكن حزب الأحلاف -وهذه الاستعارة تضع كل الغرب في صندوق واحد- وحاليا يحارب الروس في أوكرانيا بدعاوى مشابهة، تفيد بأنهم متورطون في حرب شاملة مع المعسكر الغربي. ولكن متى كانت للغرب إستراتيجية تجاه مصيره؟

مثل هذا السؤال المبرر يشمل العرب أيضا؛ فدون جمع أدلة، حتى الأعمى يلاحظ ما بيننا من تحسس وخلافات.

خلال زيارة إلى مكتب محمد عمران في جريدة “الثورة” عام 1979 قرأ سطرين من مقالة وصلته للتو من الشاعر يوسف الخطيب، قال فيها: اليوم بإمكاننا إزالة الحدود التي تفصل بين الأشقاء في سوريا والعراق. وأضاف: وبتكلفة لا تزيد على ثمن ممحاة يحملها أولاد المدارس.

◄ نحن أمة متحولة، وتعرضت لطفرة زرعت لنا أكثر من رأس. وحاليا لدينا خطط تتصف بالتناحر والإلغاء. وحظ التكامل بيننا ليس أفضل من تجارب الوحدة والاتحادات، فقد منيت بالفشل الذريع بسبب التسلط

هذا الغرام المجاني، والذي استمر لأقل من عام، كان أيضا وراءه أميركا، ومعاهدة كامب ديفيد التي وضعت مصر خارج خريطة الصراع الوجودي مع إسرائيل. ومؤخرا نرى أنفسنا داخل نفس المربع وإن اختلفت الظروف. عادت الحدود الشائكة بين الجارين. كانت في الماضي سياسية وعسكرية، وفي هذه المرة بنكهة دينية، وبدعم من الميليشيات.

ويبدو أن سياسات العرب محكومة دائما بتجاذب الأضداد. فحكومات المحاصصة تحتاج إلى حليف عسكري ولو أنه يحكم بقوة السلاح. وهذه ذروة المأساة. ديمقراطية مقيدة (حتى الدستور كنا نسميه باسم قسري وهو المشروطية)، ثم الإنفاق بسخاء على الجيش لضبط الساحة في الداخل.

لا أستطيع أن أحدد أين الخلل. وربما أجد نفسي متوافقا مع عبارة للروائي سنان أنطون ذكر فيها أن العرب أمة لا تتعلم من تجاربها السابقة. وبالحرف الواحد: إنها لا تقرأ تاريخها. ولكن هل بقي لدينا إحساس به؟ فنصف الأمة تعيش خارجه، والنصف الثاني يأكل من فتاته. بتعبير آخر: نحن حالة غير تاريخية، ولذلك أصبحنا في ملعب الأمم. وقد كتب عن ذلك عالم الاجتماع السياسي باتريك سيل، ورأى أننا منتدبون لمصيرنا ولكننا لا نصنعه. والأسوأ أننا نسمي الانتداب والحماية بأسماء مزيفة، منها معاهدة صداقة أو ميثاق تعاون أو شراكة إستراتيجية وغير ذلك. وهذه نكتة تدعو أي إنسان للضحك.

كيف يمكن لدولة ضعيفة يبلغ متوسط دخل أفرادها أقل من 40 دولارا في الشهر أن تكون على شراكة مع دولة دخل أفرادها أكثر من ألف دولار (والمقارنة بين سوريا وحليفتها روسيا قبل خروج الأسد الابن – والأرقام من جداول عام 2024).

أعتقد أن باتريك سيل كان واضحا حينما ربط مستقبل السوريين بالنزاع الدولي، فاختار لكتابه الكلاسيكي الأول عنوان “الصراع على الشرق الأوسط”. ثم أكد على أطروحته في كتابه الأخير “الصراع على سوريا”. وقرأ التبدلات في الحالتين بوحي من السياسة الأميركية، سواء ببناء علاقات الثقة مع الروس أو الصدام معهم. ويضاف إلى ذلك إذكاء الحساسيات القديمة بين القوى الإقليمية -مثل الإيرانيين والأتراك. وبفضل هذه الأعجوبة لا يزال مصير السوريين معلقا، مثلما كان الحال في بيروت. ومن المعروف أن برلمانها يقف على حبل مشدود منذ اندلاع حربها الأهلية. وإذا وضعت الحرب أوزارها لا تزال هناك رواسب، وهي نشيطة، وترسم الحدود بالحبر السري.

 لا أفهم كيف انحدر السوريون إلى هذه الحفرة كأنهم لم يتعلموا شيئا من تواجدهم في لبنان. وحلب في الوقت الراهن مقسومة إلى قطاعين؛ شرقي وغربي. ودمشق ممزقة بين سكانها الأصليين وأبناء المحافظات والضواحي. بمعنى أنها ثلاث مدن داخل غلاف واحد، ولكنها أبعد ما تكون عن نظام وشكل الميتروبول، فهي عمليا مدينة بثلاثة رؤوس.

◄ نرى أنفسنا داخل نفس المربع وإن اختلفت الظروف. عادت الحدود الشائكة بين الجارين. كانت في الماضي سياسية وعسكرية، وفي هذه المرة بنكهة دينية، وبدعم من الميليشيات

يجعلني ذلك أفكر أن الفانتازيا ليست بعيدة عن واقع الشرق العربي، وأن ما تخيله الإغريق وبعدهم الرومان جزء من الحقيقة. ونحن أمة متحولة، وتعرضت لطفرة زرعت لنا أكثر من رأس. وحاليا لدينا خطط تتصف بالتناحر والإلغاء. وحظ التكامل بيننا ليس أفضل من تجارب الوحدة والاتحادات، فقد منيت بالفشل الذريع بسبب التسلط، حتى أصبحت عبارة تجزيء المجزأ من البديهيات. والكلام عن 22 دولة عربية ليس رقما حقيقيا، بفضل وجود كيانات منفصلة بحكم الأمر الواقع، ناهيك عن بلدان دون هوية واضحة لأنها تدين بولائها لعنصر غير عربي. وفي هذا الواقع أصبح القرار المستقل أسطورة أو ضربا من المستحيل. حتى أن الاتفاق حول أوجاع غزة يصطدم دوما بجدار القرار الأميركي.

وفي رواية “قناع بلون السماء” للفلسطيني الأسير باسم خندقجي عدة إشارات إلى هذا التناذر. فهو سلوك مريب ومرضي ويضع وجه الأمة وراء عدة أقنعة، بعضها ديني والآخر عرقي. بطل روايته أصلا بهويتين على شاكلة الدكتور جيكل ومستر هايد، مصاب بشيزوفرينيا فرضها عليه الاحتلال وضرورات البقاء. ولا يدعم هذه الرؤية أحد أكثر من رواية “براري الحمى” لمواطنه إبراهيم نصرالله. فهو يقرأ الواقع بلغة دورات الطبيعة، ويؤكد أن اليأس ليس وقفا على العرب، وهو ينسحب على من تتقاطع مداخلاتهم مع السياسة العربية.

نحن أموات بالنتيجة لا محالة، ولكننا بخلاف الطبيعة نموت عدة مرات. بمعنى أننا ندخل بمرحلة سبات سريري لكن لا نفنى، وتتخلل ذلك صحوة مؤقتة. ومثل أي سيزيف نحمل سلاسلنا -وهي رمز آخر لصخرة سيزيف ونكرر المحاولة- وعن ذلك يقول بطل روايته: إنه يرى شيئا يشبه الوضوح، ولكنه ليس الضوء. ويشبه الضوء، ولكنه ليس النهار. ويشبه النهار، لكنه ليس الشمس. وربما هو في نفق يحكمه ليل طويل.

وبين هذه المترادفات التي تزعزع سلطة الليل ولونه الأسود يتوفر للمجتمع العربي بعض الهوامش، غير أننا كالعادة لن نتفق على وضع اسم لها. وكما ورد في كلمة الغلاف: ليس أمامنا غير أن نؤمن بجغرافيا متخيلة لا يكون فيها دور حاسم للهوية أو الزمن أو التاريخ، على شرط أن يبقى كل شيء رهن ذاته فقط.

9