كلام أميركي عن الديمقراطية في العراق

من ألغاز السياسة الأميركية، سواء في عهد الجمهوريين أو الديمقراطيين، أن الأسود يصبح أبيض، أحيانا، والظلم عدلا، والفوضى ديمقراطية، حسب الظروف، وتبعا للمتغيرات من المصالح والاحتياجات.
فقد دعا الرئيس الأميركي جو بايدن مئة وثماني دول اعتبرها ذاتَ أنظمة ديمقراطية في العالم، لعقد مؤتمر قمة يبحث سبل التصدي للفساد والممارسات الاستبدادية، فضلا عن توسيع نطاق حقوق الإنسان.
ولم يوجه الدعوة لحضور هذا المؤتمر إلا لدولتين ديمقراطيتيْن في الشرق الأوسط، وهما دولة العراق الديمقراطية، وإسرائيل.
ويبدو أن الإدارة الأميركية ترى أن مجرد إجراء انتخابات، أي انتخابات، ديمقراطية لا ريب فيها.
◄ الولايات المتحدة، بما لها من جواسيس ومخبرين وحلفاء سياسيين كبار داخل المنطقة الخضراء، لم تسمع ولم تقرأ كل هذه الأخبار، ولم تتعرف على اعترافات الفائزين والخاسرين بأنها مزورة
أما نحن أهل مكة الأدرى بشعابها فخيرُ العارفين بأن هذه الدعوة الأميركية لديمقراطية العراق ملغومة، وقد لا تكون أكثر من حركة التفاف سياسية تهدف إلى مناكفة إيران وأحزابها الخاسرة في الانتخابات، والدعم غير المباشر لخصوم رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي العراقيين.
فالمواطن العراقي المكتوي بنار هذه الديمقراطية يعلم بأن المتوفر في العراق، منذ 2003 وحتى اليوم، ليس سوى فوضى زرعها الحاكم المدني بول بريمر في أعقاب الغزو الأميركي، وباركتها إيران والمرجعية، وتمسك بها الشركاء الكبار في نظام المحاصصة.
وبايدن يعلم، أكثر من غيره، بأنْ ليس لصندوق الاقتراع أي علاقة بالديمقراطية حين يكون الناخب ذاهبا إليه وهو مأمور بالتصويت لهذا المرشح دون ذاك، ولهذه القائمة دون تلك، أو حين لا يكون لبرنامج المرشح اعتبار.
وبالتالي فإن مجلس النواب الذي يولد من صناديق اقتراع من هذا النوع لن يكون سوى مجلس رؤساء أحزاب وأصحاب ميليشيات وقادة كتل وتيارات قليلة، كما لن يكون نوابُه أكثر من شطّار تعلموا من أين تؤكل الكتف، فتمكّنوا من شراء الناخبين، كل عشرة بدولار، أو سوْقِهم كالأغنام بقوة السلاح، أو بفتوى رجل دين، أو بأوامر شيخ قبيلة.
وفي آخر حوار أجرته قناة فوكس نيوز الأميركية مع الحاكم المدني الأميركي بول بريمر، سأله المذيع عن حالة الفوضى التي ولدت في العراق في أيامه، وتجذّرت وأصبحت من ثوابت الحياة السياسية والأمنية العراقية، منذ عام 2003 وحتى اليوم، فقال “إن القصة غير المكتوبة عن العراق هي مدى نجاحه، على الرغم من كل المشاكل. فهناك بلدٌ أجرى أربعة انتخابات نيابية، واستفتاء، وانتخابات محلية، وهو رقم قياسي في العالم العربي، ربما باستثناء لبنان، وقبل ذلك كتب العراقيون الدستور، ووافقوا عليه، وكانوا يتّبعون أحكامه الانتخابية (…) إن التزامهم السياسي بمحاولة إقامة حكومة تمثيلية منتخبة مثيرٌ للإعجاب”.
وكأنه لا يعلم بأن ما تبقى من ديمقراطيته التي تركها وراءه في العراق ليس أكثر من شعارات وصور ملونة لسياسيين توارثوا الدكتاتورية أبا عن جد، ومن زمن سحيق، ومن الصعب عليهم القبول بثقافة الرأي والرأي الآخر، وتداول السلطة بالتي هي أحسن، وبالعدل والمساواة وسلطة القانون.
أولا، لقد ارتكب القادة السياسيون الكبار أكبر جريمة بحق الديمقراطية حين تراكضوا، كلٌ في طريق، لاستقدام قوة خارجية تساعدهم على رفاقهم وشركائهم الآخرين.
فقد ارتمى الذين يدَّعون تمثيلَ شيعة العراق في أحضان الولي الفقيه، وجرى السُنة نحو دمشق وعمان والقاهرة والرياض طلبا للنجدة والتماسا لمعونات وهدايا وعطايا، وجرى الكرد ذات اليمين مرة، ومرة ذات الشمال، طلبا للحماية والأمن والاستقلال.
وفي كل عودة لأحدهم من عاصمة شقيقة أو صديقة يتحدث في مؤتمر صحافي ويبشر المراسلين والمواطنين بنجاح زيارته تلك، ويباهي بما حصل عليه منها، دون حياء.
وثانيا، لقد أصروا، دون استثناء، على شراكة وطنية، وهو الاسم الجديد المُختَرع للمحاصصة الطائفية التي ولد في أحضانها العراقُ الجديد، وهو ما ينسف الديمقراطية من جذورها.
وثالثا، تمسك قادة الإسلام السياسي (الشيعي) الإيراني بـ(شيعية) منصب رئيس الوزراء، مهما تكن نتائج الانتخاب، وسنية رئاسة البرلمان، وكردية رئاسة الجمهورية، ثم يتم توزيع الوزارات السياسية الثلاث، المالية للشيعة، والدفاع للسنة، والخارجية للكرد، ويحدث تبادل مواقع، أحيانا، وحسب الظروف، وهذه أكبر الكبائر التي تُرتكب بحق الديمقراطية وبسُمعتها وهيبتها وحرمتها.
◄ بايدن يعلم، أكثر من غيره، بأنْ ليس لصندوق الاقتراع أي علاقة بالديمقراطية حين يكون الناخب ذاهبا إليه وهو مأمور بالتصويت لهذا المرشح دون ذاك
وفي انتخابات 2010 داس قادة البيت الشيعي الولائي الإيراني بأقدامهم على الدستور، واحتالوا على نتائج الانتخاب، فاستصدروا من قضائهم المنحاز قاعدة جديدة غير مسبوقة تقول إن الجهة التي ينبغي تكليفها بتشكيل الوزارة ليست هي الفائزة في الانتخابات، بل هي التي تتشكل بالتحالفات التي تتم بعد إعلان النتائج.
والغريب أن الولايات المتحدة، بما لها من جواسيس ومخبرين وحلفاء سياسيين كبار داخل المنطقة الخضراء، لم تسمع ولم تقرأ كل هذه الأخبار، ولم تتعرف على اعترافات الفائزين والخاسرين بأنها مزورة.
ثم كأنها لم تعلم بما هو حاصل، هذه الأيام، حول المنطقة الخضراء، من اعتصامات وتهديدات بالانتقام والاغتيال إذا لم يتم إلغاء نتائج الانتخاب، أو إذا لم يرضخ الفائز الأكبر فيها، مقتدى الصدر، فيُشركهم في الحكومة القادمة بالتوافق؟
ويمُنُّ القادة السياسيون العراقيون على شعبهم بنعمة الحرية التي أكرموه بها، ويلومونه على تقصيره في تقدير قيمتها، وعلى جهله بأنّ دولا كثيرة في المنطقة تحسده عليها، وينصحونه بعدم التفريط بها، وبحمايتها من الزوال.
نعم، في العراق حرية، ولكنها ليست الحرية الحقيقية التي ظن الشعب العراقي بأن حكام العهد الديمقراطي الجديد، وأغلبهم أصحابُ أحزاب الله، وربع الله، وجند الله، ووكلاء آيات الله وحجج الله، سيَصدُقون في وعودهم، ويحققون له ديمقراطية غير مغشوشة بعد طول انتظار.