كسر سنوات القيود التجارية ينعش نشاط الأسواق في سوريا

النموذج الاقتصادي الذي كان قائماً قبل سقوط النظام هو اقتصاد السوق الحرة إلا أنه لا يشتغل وفق آليات اقتصاد السوق الحرة.
الجمعة 2025/01/24
الانفتاح لا يعني تغذية السوق السوداء

شكل كسر سنوات القيود التجارية والمالية، بالتزامن مع التحولات السياسية في سوريا، دفعة قوية لانتعاش الأسواق ومن ورائها الاقتصاد الذي كان يدور في فلك الانغلاق نتيجة الحرب وسوء إدارة النظام السابق باعتبارها أحد أسباب انهيار كافة المؤشرات.

دمشق - بُعيد سقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد، أخرج يوسف رجب البضائع الأجنبية المخبأة وعرضها في واجهة متجره بدمشق، في مشهد غير مألوف يعكس انتهاء قيود صارمة فرضت لعقود.

وفي العديد من ساحات وشوارع العاصمة، انتشر صرّافون وباعة عبوات الوقود والمازوت، مستفيدين مما يعتبره خبراء “فوضى” في الدورة الاقتصادية خلال المرحلة الانتقالية التي تقودها الإدارة الجديدة.

وكانت السلطات في عهد الأسد تحتكر مصادر المواد الاستهلاكية والمحروقات والأجهزة الكهربائية، وتحصرها برجال أعمال مقرّبين منه. وكذلك فرضت إجراءات عقابية على كل من يتعاون مع مصادر أخرى أو يحاول استيراد بضائع أجنبية أو يتعامل بغير الليرة.

وبدّل التجار عاداتهم بين ليلة وضحاها عقب سقوط نظام الأسد في الثامن من ديسمبر 2024 إثر هجوم لفصائل معارضة تقودها هيئة تحرير الشام. وبعدما اعتاد رجب أن يخبئ البضائع الأجنبية في سلال المهملات أو أماكن مخفية في متجره الاستهلاكي بوسط دمشق، بات اليوم يعرضها بكل راحة.

باسل عبدالحنان: الاقتصاد في سوريا القادمة سيكون حرا وأيضا تنافسيا
باسل عبدالحنان: الاقتصاد في سوريا القادمة سيكون حرا وأيضا تنافسيا

ويقول التاجر البالغ من العمر 23 عاما لوكالة فرانس برس “بعد مرور يوم واحد على سقوط النظام، أخرجت كل البضاعة الأجنبية المخبأة ووضعتها على الواجهة من دون خوف.” ويضيف “لم يكن الشعور مألوفا، لكن كنت سعيدا للغاية،” وهو يعرض في متجره للمرة الأولى منتجات مثل ألواح بسكويت أجنبية ودخان مستورد وعبوات شامبو.

بين العقوبات التي فرضتها دول غربية على دمشق بعد اندلاع النزاع عام 2011، وقيود السلطات داخليا، عانى السوريون على مدى العقد المنقضي من أزمات معيشية مزمنة وفقر مدقع طال كثيرين.

وخلال النزاع لجأ التجار إلى طرق مختلفة لإدخال البضائع، إما بتهريبها عبر الحدود مع لبنان، أو تخليصها جمركيا عبر وسطاء مقرّبين من عائلة الأسد، في مقابل دفع مبالغ باهظة.

ومع أن التجار باتوا قادرين على بيع ما يحلو لهم متى توافر، إلا أن بعضهم يشكو غياب الانضباط في الأسواق. وويوضح رجب “صحيح أن هناك حرية تجارية كبيرة الآن لكن أيضا هناك فوضى.”

وسبق أن قال وزير الاقتصاد في الحكومة الانتقالية باسل عبدالحنان إن “الاقتصاد في سوريا القادمة سيكون حرا تنافسيا مع تطبيق سياسات حماية المنتج المحلي، للتركيز على القطاع الصناعي ودعمه بشكل كبير لتحفيزه، بالإضافة إلى دعم وحماية القطاع الزراعي.” ولم تحدد السلطات بعد إجراءاتها الاقتصادية، باستثناء خطوات محدودة منها فرض رسوم جمركية على السيارات.

ويقول الباحث والأستاذ في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق عدنان سليمان إن النموذج الاقتصادي الذي كان قائماً قبل سقوط النظام هو اقتصاد السوق الحرة، إلا أنه لا يشتغل وفق آليات اقتصاد السوق الحرة. وأوضح في تصريح لوكالة فرانس برس أن الآليات كانت مشوّهة، فبدل المنافسة كان الاحتكار سائدا.

◙ حالة من اقتصاد السوق الحرة المفتوحة
◙ حالة من اقتصاد السوق الحرة المفتوحة

ويشير سليمان إلى أن النموذج الجديد الذي لم يتبلور بعد فيه “استمرار للنموذج القديم”؛ حيث أضيفت إليه “حالة من اقتصاد السوق الحرة المفتوحة… بمعنى أنه لا توجد ضوابط،” متحدثا عن “مزيج من حالة الفوضى الاقتصادية.”

ويلمس السوريون بعض مظاهر هذه “الفوضى” في الشوارع الرئيسية، فقد باتت مألوفة رؤية الكثير من الأشخاص في الشوارع والساحات ومعهم رزمات من الليرة والدولار الأميركي وهم ينادون بصوت مرتفع “صرّاف… صرّاف”. وكانت مزاولة الصرافة بشكل علني محظورة خلال حكم الأسد، ويمكن أن تؤدي الى السجن سبع سنوات وغرامات باهظة.

عدنان سليمان: الآليات كانت مشوّهة، فبدل المنافسة كان الاحتكار سائدا
عدنان سليمان: الآليات كانت مشوّهة، فبدل المنافسة كان الاحتكار سائدا

ويوضح الصرّاف أمير حليمة “هذه المهنة لم تكن موجودة، وكان يعمل بها البعض في الخفاء، لذلك كنّا نرمّز للدولار بتسميات وهمية مثل النعناع أو البقدونس أو أي نبات أخضر.”

ويُضيف الشاب البالغ من العمر 25 عاما، وهو جالس خلف طاولة صغيرة في الشارع وضع عليها لافتة “صرّاف” وآلة لعدّ النقود، “انفتحت سوق الدولار بشكل كامل… تحرّر سعر الصرف وتحرّر الصرّافون.”

ويراوح سعر الصرف راهنا بين 11 و12 ألف ليرة في مقابل الدولار، علما أنه وصل إلى ثلاثين ألف ليرة عشية إسقاط نظام الأسد. وقبل النزاع كان الدولار يساوي حوالي خمسين ليرة، إلا أن العملة تهاوت بشكل تدريجي وفقدت أكثر من تسعين في المئة من قيمتها.

وقال وزير الخارجية أسعد الشيباني في كلمة خلال المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس الأربعاء “ورثنا دولة منهارة من نظام الأسد، لا نظام اقتصاديا فيها،” مبديا أمله في أن يكون “اقتصاد المستقبل (في سوريا) مفتوحا.”

وتغيّر الوضع على صعيد بيع الوقود كذلك. وبعدما كان ذلك حكرا على السلطات، صار بائعو عبوات البنزين والمازوت (الديزل) ينتشرون في أنحاء العاصمة حيث بدأت تنتشر السيارات الحديثة التي كان استيرادها مقيّدا في العهد الماضي.

وطالب مسؤولو الإدارة الجديدة برفع العقوبات بعد سقوط نظام الأسد. لكن القوى الغربية ربطت تخفيف العقوبات بالنهج الذي ستعتمده السلطات الجديدة.

وفي السادس من يناير الجاري أصدرت الخزانة الأميركية ترخيصا جديدا لتوسيع الأنشطة والمعاملات المسموح بها مع سوريا خلال الأشهر الستة المقبلة، “للمساعدة في ضمان عدم عرقلة العقوبات للخدمات الأساسية واستمرارية وظائف الحكم في كل أنحاء سوريا.”

وتعاني البلاد من نقص في الوقود وانقطاعات طويلة في التيار الكهربائي قد تصل إلى 20 ساعة يوميا. ويرى سليمان أن النموذج القائم لا يمكن أن يستمر على المدى الطويل، مشيرا إلى أن تعهد الحكومة باعتماد نموذج اقتصادي حر “يحتاج إلى ضوابط.” ويوضح “ترك النظام السابق إرثاً ثقيلاً، وأكبر تحدّ ستواجهه الحكومات القادمة هو تحدي تمويل التنمية وإعادة الإعمار.”

 

11