كريمو النَّسب قنبلة مستقبلية تُنذر بالانفجار

الأطفال "مجهولو النسب" في العراق ظاهرة تتضاعف كلما زاد الفقر والجهل في المجتمع، وتفشّى الانحلال الأسري بسبب الحروب وانتشار المخدرات.
الأربعاء 2018/06/27
أطفال تركوا لمصيرهم

تبقى مشكلة “مجهولي النسب” أو “كريمي النسب” كما يطلق عليهم في العراق قنبلة تنذر بالانفجار، وهي تتضاعف كلما زاد الفقر والجهل في المجتمع، وتفشّى الانحلال الأسري بسبب الحروب وانتشار المخدرات.

ويضاف إلى ذلك انتشار الفساد الإداري في دوائر الدولة العراقية، وعدم مواكبة القوانين في العراق للظروف التي مرت بها البلاد خلال العقود السابقة، إضافة إلى الأزمة الاقتصادية والأخلاقية التي أثرت سلبا على الوضع الاجتماعي والإنساني بسبب سوء التصرف في موارد البلاد المالية، واعتماد الإدارات في الدولة العراقية على المحسوبية والمنسوبية في تعيين المسؤولين على رأس المصالح الحكومية.

 

لم يعد مدهشا أن تجد قرب مستشفى للولادة في بغداد والمحافظات العراقية الأخرى، وليدا لم يبلغ عمره بضع ساعات يصرخ، وقد تم لفه بثوب قديم أو قطعة قماش بيضاء، وترك وحده في العراء. وربما هذا الطفل أكثر حظا من طفل آخر وجد في الوضع ذاته، وقد تم إلقاؤه في حاوية مهملات أو قريبا منها، لتنهشه الكلاب السائبة وتقضي عليه، أو ينقذه عابر سبيل في اللحظات الأخيرة من أنياب كلب أو من الرجم بالحجارة من أطفال الحي، وهم يصرخون حوله بشكل هستيري “نغل، لقيط، ابن الحرام”.

ويقول سعد الجبوري أخصائي اجتماعي في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية في العراق “من الطبيعي أن تبرز ظاهرة اجتماعية خطيرة في العراق تسمى ‘كريمو النسب’، وهي التسمية التي أطلقت عليهم في العراق قبل أربع سنوات من قبل الوزارة المفوضة بمتابعة أحوالهم، للتهوين عليهم عند الكبر، بدلا من التسمية القديمة: مجهولو النسب”. وأضاف “مرَّ العراق بحروب كثيرة، مما خلف زهاء مليوني أرملة، وأكثر من ثلاثة ملايين مطلقة، وآخرها ما حصل من مآس عند احتلال جماعات داعش لأربع محافظات عراقية، فرضت خلال ذلك على النساء زيجات من أتباعها، مما نتج عنها إنجاب الكثير من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم الآن بين سنة وأربع سنوات، ووصل عددهم إلى أكثر من ثلاثة آلاف طفل، وقد قتل آباؤهم في المعارك أو فروا إلى جهات مجهولة، وتركتهم أمهاتهم أيضا خوفا من الأهل أو للحفاظ على السمعة”.

وأفاد الجبوري أن “عملية منحهم أسماء وأوراقا رسمية تعدّ من أكثر المسائل تعقيدا في العراق، إذ بسبب الفساد الإداري يتم التعامل مع المسألة بالكثير من الضوابط البيروقراطية، مما قلص فرص مساعدة هؤلاء الأطفال، لتسهيل ضمّهم إلى أسر بديلة ترعاهم. ولذلك فمن المفروض أن يقوم القضاة في مختلف المدن العراقية بالحث على تطبيق القانون الخاص برعاية الأحداث رقم 76 لسنة 1983 بتفعيل المادتين 37 و40 منه لتنشيط دور الباحث الاجتماعي في التحرّي من طلبات التبني، لمعرفة الأسر المناسبة لتبني هؤلاء الأطفال”.

ونبه الدكتور عبدالكريم عطا أخصائي نفسي وباحث وناشط في مجال حقوق الطفل إلى ضرورة الاهتمام بالجانب الإنساني والنفسي لهذه الشريحة من الأطفال، الذين لا ذنب لهم، فهم يجدون أنفسهم عندما يكبرون بلا آباء ولا أمهات، وحتى أوراقهم الثبوتية تشير إلى أنهم مجهولو النسب والمسألة حاليا في العراق أخذت شكلا مأساويا بسبب الفقر، الذي تعاني منه شرائح اجتماعية عراقية كثيرة، فتضطر الكثير من العائلات للتخلي عن أطفالها إما بالنبذ إلى الشارع بلا أوراق ثبوتية، وإما بالبيع إلى سمسارات قد تخصّصن في هذا المجال، لقاء مبلغ مالي، فيقع هؤلاء الأطفال بأيدي عصابات التسول أو تلك المتخصّصة في السرقة والخطف وبيع المخدرات والأعضاء.

منح كريمي النسب أسماء وأوراقا رسمية يعد من أكثر المسائل تعقيدا في العراق، مما قلص فرص مساعدة هؤلاء الأطفال

فهيمة الدلالة (60 سنة) طويلة، نحيفة، بيضاء الوجه، متخصّصة ببيع الأطفال في منطقة الحبيبية ببغداد من مجهولي النسب لمن يرغب في الشراء، تعتقد أنها بهذا العمل تنقذ الأطفال من الموت الأكيد، فهي تحصل على الأطفال من أرامل ومطلقات حملن سفاحا أو بعد أن تم خداعهن بعقود زواج صورية، لقاء مبلغ من المال، أو تشتريهم من أحد مستشفيات الولادة في بغداد برشوة بعض العاملين فيه، فيتم بعد الولادة إخبار الأم بوفاة وليدها أثناء الولادة، وفي خطوة لاحقة يتم بيع الوليد للدلالة. وتقوم بدورها بالبحث عن مشتر لهؤلاء الأطفال، ويتم تسجيلهم في دائرة النفوس، كأطفال حديثي الولادة لمن يشتريهم وينسبون لآباء وهميين.

ويقول نقيب الشرطة يونس المحمداوي “عملت في مناطق كثيرة من بغداد في السنوات العشر الأخيرة، ولم تخلُ مراكز الشرطة التي عملت فيها يوما من حادثة العثور على طفل أو طفلين في مناطق مهجورة أو قرب المزابل أو عند أبواب الجوامع. أطفال تركوا لمصيرهم، وأكثرهم من حديثي الولادة”.

وأضاف المحمداوي “ظاهرة مجهولي النسب في المجتمع العراقي أخطر بكثير من ظاهرة المشردين أو المنحرفين، فهي تعني أننا أمام قضية جنائية المتسبب فيها سيبقى مجرما طليقا سواء كان أما أو أبا أو سمسارا، وهي جريمة حسب جميع الشرائع الوضعية أو الدينية والقيم الأخلاقية، وتعني فقدان الضمير الاجتماعي المتحضر. والكثير من العصابات تستطيع بواسطة الرشوة والفساد الإداري في دوائر النفوس العراقية، أن تضمن لهؤلاء الأطفال وثائق شخصية مزورة، بأسماء وأصول غير حقيقية، لتتمكن في ما بعد من استغلالهم في عملياتها الإجرامية”.

13