كرواتيا.. شمس الأدرياتيكي ونداء الحجر القديم

جمالٌ يتكلم بلغات ثلاث صامتة ويشهد على قدرة الإنسان على النجاة.
الأحد 2025/04/13
البحر رفيق حكايات المدينة

هناك بلدان لا يمكنك نسيانها بعد زيارتها، لا لأنها الأكثر تطورا أو الأكثر إبهارا وحركة، بل لأنها الأعمق روحا، فتظل كل الأماكن الشبيهة تذكرك بها، تسكنك روائحها وألوانها وإيقاع لغتها وأصواتها وموسيقاها وأزقتها وحجارتها وشعبها، الأماكن أرواح بل كل شيء، ومن تلك الأماكن التي تسكنك روحها إذا ما زرتها كرواتيا، بمختلف مدنها بين البحر والجبال.

ثمة رحلات لا تشبه غيرها. لا تقاس بالأميال ولا تختصر بالمسافات. رحلات تخرج بك من إحداثيات الجغرافيا لتضعك في بعد آخر، حيث تتداخل الأزمنة، وتتفتح المدن على أسرارها مثل زهرة نادرة تتنفس في ضوء الصباح. هكذا كانت رحلتي بالسيارة من فيينا إلى كرواتيا، مررنا خلالها على تضاريس تتغير تدريجيا، وكأنها تمهد النفس للعبور من عالم إلى آخر.

كرواتيا ليست مجرد دولة على خريطة أوروبا، بل تجربة معيشة كاملة، تلامس الحواس وتوقظ في الإنسان حنينا غامضا لماض لا يعرفه. إنها بلدٌ تحيطه الجغرافيا من كل الجهات وكأنها أرادت له أن يكون قلبا نابضا بين الشمال الأوروبي القاري، والجنوب المتوسطي البحري، والشرق البلقاني المنفلت من كل تعريف. أكثر من 56 ألف كيلومتر مربع، مزروعة بالمدن والجبال والأنهار والجزر -كمملكة قديمة اختارت أن تستمر في الحضور، لا بالسلطة، بل بالجمال.

على امتداد شواطئها، التي يتجاوز طولها 1778 كيلومترا، تشع كرواتيا تحت شمس الأدرياتيكي، ذلك البحر الذي يشبه مرآة ضخمة تعكس التاريخ كما تعكس الضوء. البحر هنا ليس مجرد مساحة زرقاء، بل رفيق قديم للمدن التي نشأت على ضفافه. تحاوره البيوت بأبوابها الخشبية، وتستدعيه الحكايات الشعبية والأغاني المحلية، وتكتبه الأرصفة الرخامية على طريقتها.

جوهرة تتنفس

كرواتيا ليست مجرد دولة على خريطة أوروبا، بل أرخبيلٌ من المعاني، موزعٌ بين البحر والجبال حافظة الطمأنينة

في تسع ساعات من القيادة، تتغير التضاريس، لا فقط في الجغرافيا، بل في النفس. ينسل التغيير خفيفا في البداية: الغابات تصبح أكثر كثافة، الجبال أكثر قربا، والهواء أكثر دفئا، كأن الأرض نفسها تتنفس بلحن آخر كلما اقتربت من الأدرياتيكي. وهناك، عند حدود كرواتيا، تبدأ الأشياء في النطق بصمتها: الحقول، المدن الصغيرة، والقرى التي تشبه قطعا من الذاكرة. شيء ما يخبرك أنك على عتبة أرض لا تكتشف فقط بالعين، بل يصغى إليها من الداخل.

كانت مدينة سيلكا هي بوابة دخولي الأولى إلى هذا العالم، جوهرة تتنفس على حافة البحر الأدرياتيكي، مثل ورقة شجرة لا تزال مبللة بندى الفجر. ليست سيلكا مدينة مشهورة في الأدلة السياحية، لكنها تنتمي إلى ذلك النوع من الأماكن التي تحفظ الجوهر وتنسى الزخرف. الشوارع هناك ضيقة، مرصوفة بالحجر، والبيوت تحتفظ بخشبها العتيق وألوانها الطينية كأنها ترفض أن تنسى من بناها أول مرة.

كان المشي في سيلكا أشبه بالحوار مع ذاكرة جماعية لا أعرفها، ومع ذلك شعرت بأنها تعرفني. شيء من الحنين تسلل في الصوت والحركة، كأن الحجارة تنطق أسماء كانت تسكن اللاوعي.

ليست كرواتيا مجرد دولة على خريطة أوروبا، بل أرخبيلٌ من المعاني، موزعٌ بين بحر يعرف كل الأسرار، وجبال تحفظ الطمأنينة والرهبة معا. إن مساحتها نسيج من الحضارات، من آثار الإغريق والرومان، إلى أنفاس العثمانيين، وظلال الإمبراطورية النمساوية – المجرية.

الشوارع ضيقة ومرصوفة بالحجر، والبيوت تحتفظ بخشبها العتيق وألوانها الطينية كأنها ترفض أن تنسى بناتها الأوائل

كأنها قلبٌ بين ثلاث حضارات: القارية الباردة، المتوسطية العاطفية، والبلقانية الجامحة. وكل جهة منها تهمس لها بلغة مختلفة، فترد كرواتيا بلغة مركبة: مزيج من الرقة والصرامة، من العراقة والانفتاح.

في العاصمة زغرب تتجسد هذه الهوية المركبة بوضوح. مدينة تتكئ على التلال، وتطل من فوقها كأميرة تستعيد مجدها بحذر. هناك في شوارعها، تلتقي الكلاسيكية النمساوية برشاقة الشارع البلقاني، وتتشكل لوحة غنية بالإيحاءات. المقاهي ليست أماكن للشرب فقط، بل محطات تأمل. الأرصفة تتحدث، لا بل تحاورك، وكأن كل حجر فيها يحمل رسالة غير مكتوبة.

في متحف “ميمارا”، تقف أمام الفن كما تقف أمام ذاتك في مرآة. في حديقة “ماكسيمير”، تشعر بأن الأشجار هناك أكبر من مجرد نبات؛ إنها شهود زمنية، تحفظ أسرار العشاق والحالمين والمارين العابرين.

وفي الكاتدرائيات القديمة لا تسمع صدى التراتيل فحسب، بل تسمع صدى الإنسان. هناك حيث الزمن ينحني احتراما للجمال، والضوء يدخل من الزجاج الملون كما يدخل الشعر إلى القلب: دون استئذان.

أما دوبروفنيك فهي ليست مدينة فقط، بل شهادة على قدرة الإنسان على النجاة بالجمال. بأسوارها العالية التي تشبه أذرع أم تحضن البحر، بشرفاتها التي تفتح أبوابها نحو الأفق، تبدو دوبروفنيك كأنها خرجت توا من حلم. حجارتها ليست صلبة، بل لينة بالمعنى الروحي: تلمسك لا لتؤلمك، بل لتوقظك.

كل زاوية فيها تهمس بحكاية. كل نافذة تطل على احتمالات لا تنتهي. حتى ضوء الشمس فيها له طعم آخر، طعم النجاة والدهشة في آن.

مرآة الذاكرة

ربطة العنق لها دلالة خاصة في كرواتيا
ربطة العنق لها دلالة خاصة في كرواتيا

لقد قاومت هذه المدينة الحرب والقصف والخراب، لا فقط بالجدران، بل بالروح. روح المكان الذي يرفض أن يموت، والذي يصر على أن يحيا عبر الموسيقى والفن وأحاديث السياح وقصائد البحر.

ثم هناك سبليت، التي لا تزار بل تعاش. مدينة بدأت كقصر، وتحولت إلى حضن لحياة كاملة. قصر دقلديانوس، الذي يشكل قلب المدينة، ليس أثرا ميتا، بل كائنٌ حي، يتنفس على إيقاع الزمن. أعمدته ونقوشه ليست تذكارات ماضية، بل شرايين لحياة مستمرة.

أن تمشي في سبليت، هو أن تسير بين الحاضر والماضي كأنهما طريق واحد. هناك حيث الجدران تشاهد العالم منذ قرون، ولكنها ما تزال ترقص مع المارة وتتنفس البهجة.

لكن كرواتيا ليست فقط معمارا إنسانيا، بل هي معمار إلهي أيضا. الطبيعة فيها تسبق الإنسان في الجمال والتأثير. بحيرات بليتفيتش، على سبيل المثال، لا يمكن وصفها بالكلمات التقليدية. هي ليست بحيرات، بل حلم مائي. مرآة خضراء زرقاء تتفتح في حضن الغابات، كأنها قلبٌ ينبض بالحياة البرية.

الشلالات هناك لا تسقط فقط، بل تغني. تغني للسكينة، للدهشة، وللطفولة القديمة التي ما تزال في مكان ما في داخلنا.

البحر يشبه مرآة ضخمة تعكس التاريخ كما تعكس الضوء، إنه ليس مجرد مساحة زرقاء بل رفيق قديم للمدن

السماء في تلك المناطق ليست فقط سُقفا زرقاء، بل كائن حي يتغير كل دقيقة. الغيوم ترسم لوحات، والضوء يلعب، والرياح تهمس بأغنيات لا نعرف كلماتها، لكننا نفهمها.

أما الإنسان الكرواتي فهو ترجمان هذا الجمال. شعبٌ يحمل ود البحر وصدق الجبال. في وجوههم ترى الطيبة غير المصطنعة، وفي حديثهم تجد بساطة خالية من التصنع. في المدن الصغيرة، كما في الكبرى، ستجد هذا الدفء، كأن الناس هنا لا يعيشون في بلادهم فقط، بل يعيشون من أجلها.

ما يثير الدهشة أن هذه البلاد، رغم موقعها الجغرافي المعقد وتاريخها المليء بالتحولات، لم تفقد توازنها الإنساني. ما زال الناس هنا يعرفون كيف يبتسمون بصدق، وكيف يرحبون بالغريب كأنه قريب.

هم من العرق السلافي، نعم، لكن شيئا في دفئهم يعيدك إلى المشرق. كأن الأرواح هنا تلتقي بلا حاجة للغات. يتحدثون الكرواتية، لكنها لا تقف حاجزا، لأن القلوب تتحدث بلغتها الأصدق.

ومن بين كل التفاصيل، قد تبدو “ربطة العنق” شيئا هامشيا، لكنها في كرواتيا تحمل دلالة خاصة. فقد نشأت من هناك، من “الكرافات” التي كان يرتديها الجنود الكروات في الجيش الفرنسي، لتصبح رمزا عالميا للأناقة. لكن في كرواتيا، كل شيء صغير يحمل قصة كبيرة. حتى ربطة العنق تحولت إلى ذكرى، واحتفال، ومرآة لذاكرة البلاد.

نداء الحجر والإنسان

جدران تحتفظ بالقصص والتواريخ
جدران تحتفظ بالقصص والتواريخ

في رحلتي لم أتوقف عند المدن الكبرى فقط. زرت كارلوفاتش، المدينة التي تهمس بأغاني المياه، وتجلس على ضفاف أربعة أنهار كمنشدة قديمة. كما زرت سلافونسكي برود، حيث النهر يحرس المدينة، والقلعة العتيقة تقف كراهب تأمل الزمن.

هذه المدن ليست مشهورة عالميا، لكنها تمثل جوهر كرواتيا الحقيقي: تواضع الجمال، صدق اللقاء، وهدوء لا ينسى.

غادرت كرواتيا، لكن شيئا منها بقي في داخلي. بقيت صورها، وروائحها، وصوت البحر على الشرفات، وحكايات الحجر، وصمت الغابات.

كرواتيا ليست وجهة تنتهي ببطاقة صعود، بل قصيدة تكملها داخلك، كلما مررت على مدينة شبيهة، أو سمعت لهجة سلافية، أو رأيت حجرا مشمسا بلون التاريخ. وزيارتها لا تعني فقط أن ترى، بل أن تعيد تعريف ما تعنيه الرؤية. فهنا لا تكفي العين وحدها، بل تحتاج إلى أن ترى بالقلب، أن تلمس بالجوارح، أن تصغي لما تقوله الحجارة والمياه والأشجار. في هذه البلاد الشمسُ ليست مجرد ضوء، بل هي كائنٌ حي، يغازل الشرفات ويعجن الخبز مع العجائز، ويضيء المرافئ التي تنتظر الغرباء.

كل شيء هنا مصنوع من الذاكرة. وكل زاوية فيها تنتمي إلى حكاية أكبر من حدودها. ولهذا حين تغادر كرواتيا لا تخرج منها بالكامل. تبقى جزءا فيك، كقصيدة لم تكتمل، كصورة لا تنسى، كندبة جميلة في قلب التجوال.

هي نداء. نداء الحجر، والضوء، والإنسان. وحين تسمعه، لا يعود بوسعك أن تنساه.

10