"كرسي على الشاطئ" سيرة نفسية خلال العزلة الاختيارية

مسقط – تشكل نصوص كتاب “كرسي على الشاطئ” للكاتب التونسي المقيم في سلطنة عُمان الأمجد إيلاهي تأملات رجل يعاين تحولات الحياة ومجرياتها وطباع البشر وتقلباتهم، بعد تجربة أتاحت له الاحتكاك بكل تلك المكونات، وبالتالي القدرة على الحكم عليها من مكانه المنعزل على ذلك الكرسي الوحيد مثله تماما أمام الشاطئ.
يجلس الكاتب تاركا وراءه صنوف الحياة على اليابسة وأمامه بحر ممتد يقول الكثير ويستحضر الذكريات، وما كان له أن يبوح بكل تلك الانثيالات العميقة والصادقة لولا فسحة العزلة الاختيارية التي نأى بها بنفسه عمّن حوله؛ ليدون سيرة تبدو أقرب إلى النفسية منها إلى السيرة الواقعية.
وحين يُفرغ الكاتب حمولته الثقيلة على الورق محملا القارئ عبئها، يضيق به بيت العزلة؛ البيت الذي لم يكن يرى حقيقته من قبل. وهو لا ينتبه لذلك إلا حين يسمع نعيق غراب اتخذ من صندوق المكيف مسكنا له، فيقرر: “هذا الصباح غيرتُ البيت وتركتُ الغربان لحال سبيلها، وعدتُ إلى سكني القديم. وعلى كل حال من الأحوال فإن الكتاب الذي رحلتُ لأجله اكتمل، ونعمت بسلام وسكون عميم لدرجة أن غرابا عشش في الجدار ولم أنتبه”.
وعلى امتداد صفحات الكتاب، الصادر عن “الآن ناشرون وموزعون” بالأردن، يقود إيلاهي القراء في رحلة إلى داخله، فيرددون الأغنية الليبية “وانت نسايم رحلتي والعون” وأغاني فيروز، ويرون والدته تقذف الماء عليه من سطح المنزل فتبتل ملابسه، لكنه لا يأْبه بذلك، ويسمعون صوت والده يسأل “تحركش عون؟”، ويعاينون بحواسه الألوان والأطعمة ويزورن الأماكن في سلطنة عُمان منها صلالة وظفار وثمريت والخابورة، ومناطق من وطنه تونس مثل قريتي أم الصمعة والشريفات.
ويتعرف القارئ من خلال نصوص إيلاهي على الرجال الكادحين والنساء المجبولات بعرق البناء وفي قلوبهن يحملن الحب والطيبة، ويرتحل القارئ في ذكريات الكاتب البعيدة، قد يضحك على موقف ويتأمل آخرا ويتألم لثالثٍ حين يضغط الكاتب عبر كلماته على جرح الغياب.
يتأسس نص الأمجد إيلاهي على منظومة معرفية ذات أبعاد نفسية وعاطفية شديدة الثراء، ويعبر الكاتب عما يجول في خاطره من أفكار وما يعتريه من مشاعر، بلُغةٍ ثرية ومؤثرة ظلت قادرة على تفسير الحياة من وجهة نظره، ومقاربة ظواهر الطبيعة في اشتباكها مع أحاسيسه الداخلية. وهي لغة اتجهت نحو التصوير الفني الذي جعل التفاصيل نابضة بالحياة، يكتب مثلا “لم يكن هناك ما يُزعجُ غير الخواء والفراغِ الرهيب، ظلالٌ تتحركُ حولي وتوهمني أنها حقيقة، وأنا من بابِ معرفتي بالظل لا أتعجب مما يأتيهِ. كائناتٌ صديقة مثل النور تمشي جيئة وذهابا تحاول أخذي إلى موضع الشمس لكن الظلام ملأ المكان. حين يداهمنا الليل فجأة فعلينا النوم، أو الاستكانة للذاكرة وما تقوله العاطفة؛ أشغل أفلام الذكريات تباعا دون توقف. وتعبرُ المشاهد خلف بعضها ولا تتوقف إلا عند الأهم. والمُهم أن شيئا لا يستطيع الولوج إلى رأسك ليوقف استرسال التدفق العالي”.
وفي تقديمه للكتاب، يخط الشاعر التونسي آدم فتحي ما يشبه نصا على نص، وكأن كلماته رسالة من صديق لصديق “غدا أفضل يا صديقي. ذاك ما تقوله لنا صفحات كتابك وأنت تغادر تلاميذك لتعود إليهم، مجددا الأمل في المستقبل الذي يمثلونه، ميزة هذا النوع من الكتابة أنه ينطلق من إزميل نحات وريشة رسام وعين سينمائي وحياة إنسان من لحم ودم وأحلام وهشاشةٍ بتارة”.
ويرى فتحي أن كتابة إيلاهي كتابةٌ حرة، منسابة، منفلتة، مُقتصِدة، تمتلك قدرة عجيبة على جعل العيون تغرورق بالدموع بعيدا عن البكائيات، وهي لا تهتم بالماكياج البلاغي قدْر اهتمامها بأدبية الصدق، ولا تحفل بالتجنيس الأدبي قدر احتفالها بالنفخ على جمرة الحياة في “الوقت الميت”.
ويضيف أن نصوص إيلاهي “تمتح من السيرة الذاتية بقدر ما تقترب من أدب الرحلة، وفن الترسُل، والمذكرات، والشذرة التأملية، والقصة القصيرة، والخاطرة الفنية، واللوحة الشعرية”.