كردستان ليست ورقة مساومة: لا عدالة في دولة تُجوّع شعبها

الواقع اليوم ليس "تعثرًا تقنيًا أو التباسًا محاسبيًا" في التحويلات المالية بل سياسة متعمدة لتهميش كردستان بالرغم من أن الإقليم واصل تقديم التسهيلات وإبرام عقود قانونية مع شركات النفط الدولية.
الثلاثاء 2025/06/10
قضية كرامة وحياة

إلى الرأي العام داخل العراق وخارجه: كفى صمتًا أمام ما يُمارس ضد شعب كردستان العظيم. لم يعد ما يجري مجرد خلاف سياسي عابر أو تعثر مالي عادي أو أزمة اقتصادية عابرة، بل حملة ممنهجة تستهدف شعبًا كاملاً بذاته. شعبٌ كان وسيظل حجر الأساس في بناء العراق الجديد بعد 2003؛ شعبٌ دفع أثمانًا فادحة في مواجهة داعش الإرهابي، وفتح أبوابه لاحتضان أكثر من مليون نازح داخلي، وساهم بفاعلية في صياغة الدستور العراقي لعام 2005، الذي يُخرق اليوم أمام أنظار العالم، كما لو كان ورقةً بلا قيمة.

بخطاب رسمي واحد، ذُيل بتوقيع أكبر مسؤول مالي في العراق في 28-5-2025، قطعت رواتب مليون ومائتي ألف موظفٍ، ومتقاعدٍ، وأسر الشهداء في الإقليم. تلك الرواتب التي حُجبت تُشكل شريان حياة مئات الآلاف من العائلات، إذ لم تُصرف بانتظام لأكثر من عامين تخللتها انقطاعات متعددة تحت ذرائع غير مبررة، بحسب تقارير وزارة المالية في الإقليم، ما تسبب في أزمات حادة في قطاعات التعليم والصحة والخدمات الأساسية.

المعلمون والأطباء وأساتذة الجامعات، الذين شكلوا الدعامة الحقيقية لمجتمع كردستان، يعيشون على وعود فارغة وسط ظروف معيشية متدهورة؛ بينما تختبئ الحكومة الاتحادية في بغداد خلف مبررات قانونية واهية، وتستغل المحكمة الاتحادية – التي من المفترض بها حماية الدستور – لتبرير قرارات سياسية قاسية.

◄ كردستان ليست ملف رواتب فقط بل قضية كرامة وحياة وستبقى حجر الأساس لأيّ عراق عادل ينشده الجميع. إما أن تكون الشراكة قائمة على العدالة والمساواة أو لا شراكة على الإطلاق

الملايين من المواطنين في محافظات الإقليم الأربع (أربيل والسليمانية ودهوك وحلبجة) ينتظرون رواتبهم، بينما تشهد المئات من المدارس والعيادات الطبية إضرابات متصاعدة تعكس اليأس الذي يتسرب إلى الشارع الكردي. يمثل قرار قطع الرواتب على شعب الإقليم وصرفها لباقي مناطق وسط وجنوب العراق خرقًا واضحًا لمبدأ المساواة الذي نص عليه الدستور (المادة 14) لجميع المواطنين.

لا يجوز لدولة تدّعي الاتحاد أن تُجوّع جزءًا من شعبها، ولا ينبغي أن تتحول أبسط حقوق المواطن، كالراتب الشهري، إلى ورقة ضغط سياسية وسلاحٍ ضد مواطنيها. من يقطع راتب موظف كردي لا يختلف عن من أنكر وجود هذا الشعب عبر التاريخ أو حاول تهميشه. والمفارقة المؤلمة أن ذلك يحدث في ظل شعارات الإصلاح والخدمة؛ فهل أصبح التجويع سياسة إصلاح؟ وهل تُقاس الشراكة السياسية بعدد الاجتماعات وليس بعدد الأطفال الذين ينامون جائعين في كردستان؟

محمد شياع السوداني، نقولها صراحة: الشعب الكردي لم يكن يومًا عبئًا على العراق. على العكس، فقد وُثق في تقارير الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان مثل هيومن رايتس ووتش، بأن الكرد يشكلون مكونًا أساسيًا لا يمكن الاستغناء عنه، وليسوا أقلية، بل هم عامل استقرار وأمان في وطن فقد أمنه واستقر فيه لسنوات طوال.

وفقًا للمادة 112 من الدستور العراقي، للأكراد حق استثمار مواردهم النفطية وإيراداتهم بشكل مستقل؛ وهو حق تم تقييده بشكل ممنهج من بغداد رغم الأدلة القانونية. شارك الأكراد في الصفوف الأولى لمحاربة الإرهاب ودعم العملية السياسية، رغم كل حملات التهميش والشوفينية التي تعرضوا لها. من حقهم أن يعيشوا بكرامة، لا أن يُحاسبوا على مواقف سياسية لا علاقة لهم بها.

الواقع اليوم ليس “تعثرًا تقنيًا أو التباسًا محاسبيًا” في التحويلات المالية، بل هو سياسة متعمدة لتهميش كردستان وفرض وصاية مالية وسياسية عليها. بالرغم من أن الإقليم واصل تقديم التسهيلات وإبرام عقود قانونية مع شركات النفط الدولية استنادًا إلى الصلاحيات التي منحتها إياه المادة 121 من الدستور العراقي، فإن بغداد تمنع تصدير النفط من الإقليم وتقطّع ميزانياته، ما يعرقل التنمية ويضر بمصالح الملايين من المواطنين، كما تؤكد تقارير وزارة النفط العراقية والبنك الدولي. فهي غير مدركة أن التطور في استثمار النفط والغاز في الإقليم – الذي هو جزء من العراق – يعزز مكانة العراق الاتحادي في أسواق الطاقة العالمية.

◄ الملايين من المواطنين في محافظات الإقليم الأربع ينتظرون رواتبهم، بينما تشهد المئات من المدارس والعيادات الطبية إضرابات متصاعدة تعكس اليأس الذي يتسرب إلى الشارع الكردي

رغم هذه الضغوط، اختار رئيس حكومة إقليم كردستان، مسرور بارزاني، طريق الحوار والتفاوض. بادر بحوارات مكثفة على المستويات المحلية والدولية، وزار عواصم مثل واشنطن وبرلين ولندن، حيث تلقى دعمًا من كبار الدبلوماسيين الذين أكدوا ضرورة الحل السلمي وفق الدستور. وقد قدم مبادرات واضحة لحل الخلافات بعيدًا عن التصعيد السياسي، مؤكدًا أن الحلول الدستورية فقط هي الكفيلة بضمان استقرار العراق ووحدته. وقد أشار بيان وزارة الخارجية الأميركية في مايو 2025 إلى أهمية احترام الاتفاقات النفطية وحقوق الشركات والتزامات بغداد تجاه الوضع الفيدرالي لإقليم كردستان (المكفول بالمادة 117 من الدستور).

الاتفاق الذي تم التوصل إليه في فبراير 2025، والذي ضمن تأمين الرواتب لعام كامل لموظفي الإقليم، لم يكن صدفةً، بل حصاد شهور من التفاوض والضغط الشعبي المستمر. إلا أن بغداد ما تزال تماطل في تنفيذ الاتفاقات وتفرغها من مضمونها، ما يعكس عقلية مركزية ترى كردستان عبئًا وليس شريكًا حقيقيًا، كما حذرت تقارير البعثة الأممية في العراق ومفوضية حقوق الإنسان.

إن استمرار هذه السياسات لا يهدد فقط استقرار كردستان، بل يقوض أسس العراق برمته. فقد أظهرت تقارير البنك الدولي ومنظمة الشفافية الدولية أن الاستقرار السياسي والاقتصادي في العراق يرتكز على تحقيق العدالة والشراكة الحقيقية بين مكوناته. عراقٌ بلا عدالة ومساواة وشراكة حقيقية واحترامٍ للدستور هو عراق هش، قابل للانهيار في أيّ لحظة.

على قادة بغداد، وعلى رأسهم السوداني، أن يعوا أن كردستان ليست ملفًا ماليًا يمكن المساومة عليه، بل هو شريك إستراتيجي أساسي ساهم ولا يزال في بناء العراق الجديد، عراق ما بعد 2003. فمن هنا بدأت مقاومة داعش، ومن هنا انطلقت المبادرات الإنسانية التي استفاد منها العراق كله. من الظلم أن يُكافأ هذا الشعب بالتجويع والتمييز.

كردستان ليست ملف رواتب فقط، بل قضية كرامة وحياة، وستبقى حجر الأساس لأيّ عراق عادل ومستقر ودائم ينشده الجميع. إما أن تكون الشراكة قائمة على العدالة والمساواة، أو لا شراكة على الإطلاق.

7