كذب السياسيون ولو صدقوا

في الكثير من المجتمعات العربية، مازالت نسبة كبيرة من الشعوب تؤمن بأسطورة القائد الأسطوري الفذ، وتهيئ له عالمه السياسي الخاص به عبر تزييفها للتاريخ والأحداث.
الخميس 2022/07/21
أقنعة مزيفة

تحضر في أذهاننا جميعا الصورة النمطية عن السياسيين المراوغين والمحتالين، وكيف استطاعوا خداع الشعوب لعقود من الزمن، عن طريق حياكة الأكاذيب وذر الرماد في العيون، ومزاعمهم التي تدعي المثالية، لكنها في حقيقة الأمر مجرد أقنعة مزيفة، ثم اكتشفت الشعوب المغلوبة على أمرها فجأة! أنها كانت فريسة لسياسيين مصابين بـ”متلازمة المحتال”، وبعد فوات الأوان.

في بلدي تونس يقطع معظم المسنين أي حديث لا يعجبهم، أو يشكون في صحته بقولهم “يزي (كف) من الكذب والبوليتيك (السياسة)”، وهو تعبير يجعل من الكذب مرادفا للسّياسة.

على أية حال، لا يشكل الكذب في أروقة السياسة أمرا جديدا منذ جملة ميكافيلي الشهيرة في كتابه “الأمير” “أكذب، أكذب حتى يصدقك الناس”. يحترف السياسيون الكذب، حتى أنهم يكذبون دون أن يهتز لهم جفن، وبعضهم اعترف علنا بقوله “نكذب عليهم ويكذبون علينا” في إشارة إلى علاقة بلاده مع دول أخرى!

للكذب التكتيكي والمتعمد تاريخ طويل في عالم السياسة، ومعظم المجتمعات المتقدمة، التي حققت نجاحات على مختلف الأصعدة، وتتفاعل شعوبها مع بعضها بطرق تتصف بالمتحضرة، هي في الحقيقة مجتمعات قائمة على سياسة الأكاذيب.

فإن كان الساسة “يكذبون”، فذلك لا يعد طامة كبرى، لأن التحلي بالصدق بنسبة مئة في المئة قد يضر أكثر مما ينفع، لكنّ شيئا من الكذب قد يصب أحيانا في لب المصلحة الوطنية العامة.

عموما، ربما يكون الساسة “الكذابون” هم أنفسهم قد أدركوا الحاجة لاستمالة أشخاص يكذبون على أنفسهم ويصدقون ما يقولون، وهذا الأمر يكشف لنا عن حقيقة مهمة، وهي دور الأناس “الحمقى” في التملق أكثر من اللازم للسياسي الكاذب، والترويج له والتصويت لصالحه، وتحسين صورته وتعزيز مكانته، رغم أنهم يدركون أنه لا يدفع غير ضريبة الكلام.

وفي الكثير من المجتمعات العربية، مازالت نسبة كبيرة من الشعوب تؤمن بأسطورة القائد الأسطوري الفذ، وتهيئ له عالمه السياسي الخاص به عبر تزييفها للتاريخ والأحداث والوقائع في صالح الحفاظ على تلك الهالة التي كَوَّنوها هم عنه، ويدافعون عنها بالكلام وقوة السلاح في محاولة لتثبيتها، وبدلا من أن يتوحدوا لدحض الخرافات والأكاذيب، يتخذون مواقف عدائية ضد بعضهم البعض، كما لو أن الأمر أشبه بـ”منافسة” حامية الوطيس للحظي ببركة السياسي الكاذب ورضاه.

هنا تُطرح المسألة القديمة المتعلقة بتكرار “الأكاذيب كثيرا حتى تتحول إلى حقيقة”، وهذه القاعدة نسبت إلى جوزيف غوبلز مسؤول الدعاية السياسية لهتلر إبان الحكم النازي. وهناك شيء مشابه لذلك لدى الكثير من الساسة العرب، بل لعلها صفة لصيقة تربط القادة الكذابين بمن يفكرون بالعقلية نفسها من الشعوب. لنأخذ هنا في عين الاعتبار التعبيرات التي تستنفر الروح الطائفية في العراق، ولبنان وفي سوريا أيضا.

الإقرار بهذا الأمر قد يكون صادما للبعض على الرغم من كونه صحيحا.

20