كتاب لديفيد كريستيان يؤرخ للبشر منذ 13 بليون سنة برسم المستقبل

تميل المجتمعات البشرية، كما هو معروف في الدراسات السوسيولوجية والأنثروبولوجية، لأن تخترع قصة بداياتها. وتتباين حكايات النشأة الأولى وتتنوّع سردياتها بحسب المؤثرات الثقافية والبيئية؛ غير أنها في معظمها تنطوي على سردية أسطورية، وهكذا نشأت أساطير الخليقة التي تختص بالبشرية جمعاء كما نقرأ عنها في الكتب الدينية؛ لكن ثمة أساطير ذات خصوصية خاصة زمانية ومكانية يختص بها مجتمع دون سواه وتُشكّل معلما يميزه عن المجتمعات الأخرى إلى الحدّ الذي تغدو فيه تلك الخصوصية مصدر تفرّد يصبّ في المركّب التأريخي المعقّد المسمى تأريخ المجتمع الذي نظر له في العادة باعتباره مادة للفخار القومي.
ثمة إلى جانب الأساطير المؤسسة تواريخ المدوّنات والوقائع والملاحم القومية التي لا يخلو منها أيّ سجل للمجتمعات البشرية القائمة، ويمكن اختصار القول بأنّ الطبيعة البشرية تميل إلى إعلاء شأن خصائصها القومية المندغمة بأساطير النشأة الأولى لأنّ الكائن البشري توّاق على الدوام لمواجهة السؤال الأزلي الخاص بالأصول الأولى: من أين جئنا؟ وقد يظنّ البعض أنّ هذا السؤال قد خفتت جذوته بعض الشيء في عصر العولمة المتغولة التي حجّمت الخصائص المحلية لصالح شكل مستحدث من الخصائص البشرية المتشاركة؛ لكن يظلّ سؤال الأصول الأولى قائما وملحّا لأنه يمنح الجماعة البشرية سواء كانت محلية أم عالمية إحساسا بالمصير المشترك والتأريخ المشترك وغاية جامعة للتشارك على هذه الأرض.
ثمة مؤرّخون خرجوا على سياقات البحث التأريخي في أصول النشأة الأولى الخاصة بكلّ مجتمع وراحوا ينقّبون بجهد وصبر في حكاية الأصول الأولى الخاصة بالبشرية باعتبارها مركّبا بشريا واحدا شاملا بصرف النظر عن التباينات العرقية والبيئية المحلية، ويدعى هذا البحث “التأريخ الشامل Big History” وقد أسّس هذا المبحث المؤرّخ ديفيد كريستيان وجعل منه برنامجا بحثيا حافلا بشتى الكشوفات المعرفية التي أثارت إعجاب الكثيرين ومنهم بيل غيتس الذي تبرّع للمشروع بعشرة ملايين دولار على أمل أن يصبح المشروع برنامجا دراسيا في الثانويات والجامعات الأميركية بديلا عن التواريخ التقليدية التي تعلي شأن الوقائع بدل الأفكار.
يبدو ديفيد كريستيان في كتابه الأحدث “قصة الأصول: التأريخ الشامل لكلّ شيء” المنشور في هذا العام 2018 متناغما مع أصل أفكاره التي تأسّس عليها برنامج “التأريخ الشامل” والتي عرضها في كتب سابقة له وكذلك في مصوّرات فديوية منشورة على اليوتيوب. يبدو كريستيان مؤهلا تماما للكتابة عن الكيفية التي جاء بها الإنسان العاقل إلى هذا العالم، وقد يوحي العنوان الضخم ذو اللمسة الدرامية “التأريخ الشامل لكل شيء” بأنّ هذا التأريخ يحكي عن الوقائع البشرية مهما صغرت أو تضاءلت وعلى نسق نظرية كلّ شيء المقدّر لها أن تعبر في معادلة رياضياتية واحدة عن كلّ القوى الكونية؛ غير أنّ المعنى المحدّد للتأريخ الشامل هو سرد حكاية الكون منذ الانفجار العظيم Big Bang مرورا بالعلامات الأولى لتشكّل الحياة وانتهاء بالتشكّلات المعقّدة التي تمثّل المجتمعات البشرية أعلاها مرتبة، وبهذه الشاكلة يكون “التأريخ الشامل” أقرب إلى الكوسمولوجيا والفيزياء والكيمياء التخليقية وعلم الأحياء التطورية والنظم المعقدة، وهذا التأريخ يتفق تماما مع توجهات الثقافة الثالثة التي تتعالى على التواريخ التقليدية وتجعل المفردات العلمية حاضرة في كلّ المساءلات التاريخية الخاصة بنشأة الإنسان والكون والمجتمعات البشرية. بالإضافة إلى ما تقدّم يمتلك “التأريخ الشامل” القدرة على كشف حقيقة أنّ كلّ شيء في هذا الكون يتصل بسلسلة سببية مع الأشياء الأخرى؛ الأمر الذي يؤدي إلى تخليق بصيرة فردية تعزز قدرة المرء على استنتاج شواهد من مباحث معرفية بينية مشتبكة وصهرها في سردية مفردة مفهومة تعزز روح الشغف وتخمد نيران الكبرياءات القومية التي ترى أفضلية بعض الأعراق والإثنيات البشرية عن سواها.
عَتَبات التاريخ
يمثل كتاب “قصة الأصول” تلخيصا رائعا ووافيا للبرنامج الدراسي الخاص بالتأريخ الشامل والذي أسسه كريستيان كما ذُكِر آنفا، والكتاب يحكي قصة 13.8 بليونا من سنوات النشأة الكونية المتفق عليها من خلال رسم معالم الفواصل الزمنية المؤثرة في ذلك الوجود، وهو ما دعاه كريستيان العتبات أو البدايات، تلك البرهات التأريخية التي تشكّل مرتسمات انتقالية في تأريخ الوجود.
يحتوي هيكل الكتاب على أربعة أقسام يتناول كل منها موضوعة مركزية تضمّ عددا من العتبات المميزة الخاصة بها: يتناول القسم الأول المعنون “الكون” العتبات الخاصة بالبواكير الأولى للكون، والنجوم والمجرّات، والجزيئات والأقمار؛ في حين يتناول القسم الثاني موضوعة “النطاق الحيوي” ونقرأ فيه عن العتبات الخاصة بالحياة وعلاقة أشكالها المتنوعة بالنطاق الحيوي، ثمّ ينتقل بنا المؤلف نحو القسم الثالث الخاص المسمى “نحنُ” ويتناول فيه العتبات الخاصة بالكائنات البشرية، والزراعة، والحضارات الزراعية، والمقدمات التمهيدية التي شكّلت عالمنا الحالي، والعصر الجيولوجي الحالي المسمى الأنثروبوسين؛ أما القسم الرابع والأخير فيتناول المآلات المستقبلية المتوقعة للكون والوجود البشري. لن يخفى على القارئ أنّ فصول الكتاب الخاصة بالعتبات الأولى مثقلة بتفاصيل مستمدة من الفيزياء والكيمياء؛ غير أنها تنعطف نحو البيولوجيا والأنثروبولوجيا بعد أن يتوغل الكتاب في بحث العتبات الخاصة بكيفية تحول الخلية الواحدة إلى أشكال بيولوجية أكثر تعقيدا (يتوّجها الإنسان العاقل). ثمة في مقدمة الكتاب جدول زمني يؤشر الفواصل الزمنية ذات الدلالة الخاصة في التطور الكوني والبشري، كما يضمّ الكتاب ملحقا بإحصائيات مفيدة بشأن التأريخ البشري.
كاتب مجيد
ديفيد كريستيان كاتب مُجيد يمتلك القدرة في جعل الأشياء المعقدة تبدو أمرا يبعث على المرح والفكاهة والتفكّر المسهب في الوقت ذاته، وسيكون مصداقا لهذا القول أن أنقل شيئا ممّا كتبه المؤلف في مقدمته للكتاب:
“كتبتُ هذا الكتاب مدفوعا بالإيمان العميق بأننا - أقصد الناس الأكثر حداثة على هذا الكوكب – ليس مقدرا علينا بأن نمضي في حالة مزمنة من التشظّي وانعدام المعنى؛ إذ مع المدّ الإبداعي العظيم للحداثة ثمة حكاية أصول عالمية جديدة بازغة مفعمة بالمعنى وتنطوي على ذات الدهشة والغموض في أي قصة أصول تقليدية مع ملاحظة الفارق الجوهري في أنّ قصة الأصول العالمية الجديدة مؤسسة على مباحث علمية حديثة تجمع العديد من التوجهات العلمية المتشابكة. إنّ هذه القصة الجديدة أبعد ما تكون عن الكمال، وقد تحتاج إلى توظيف بصائر رؤيوية من حكايات الأصول التقليدية الأقدم عهدا منها بشأن كيفية العيش بصورة أفضل وكيفية ضمان العيش بصورة تضمن الاستدامة...“.
ثمّ يختم كريستيان تقديمه للكتاب بالقول:
“سنكون في أمس الحاجة إلى هذا الفهم الجديد للماضي في الوقت الذي نصارِعُ فيه التحديات العالمية الهائلة للقرن الحادي والعشرين ونشهد الفرص المتاحة فيه، وكتابي هذا ماهو إلا محاولة لسرد النسخة المحدّثة لحكاية الأصول العظيمة والدقيقة والملهمة... “.
صورة المستقبل
يختتم الكتاب بفصل عن الوجهة التي تتوجه نحوها البشرية والكون، ويبدي كريستيان تشاؤما واضحا بشأن هذا المستقبل، وهو يبدو مسكونا بحمى الفوضى الضاربة أطنابها في السياسات الاقتصادية والسلوكيات السياسية في الغرب، ولا يبدو أن الرجل يعوّل كثيرا على قدرة المبتكرات التقنية والأفكار الإبداعية على التعامل الخلاق مع مشكلاتنا المزمنة التي باتت تنذر بعواقب كارثية – فرط الاحترار العالمي بخاصة، ويكتفي بالتعبير عن حراجة هذه المرحلة المفصلية في تأريخ الوجود البشري.
إنّ فهم قصة الأصول الأولى للبشرية موضوعة حاسمة في تشكيل صورة المستقبل الذي نتوجّه إليه وترتسم معالمه أمامنا في اللحظة الحاضرة، وستتكفل القراءة الواعية والصبورة لهذا الكتاب بجعل القارئ يحوز نظرة محدّثة وغير مسبوقة ستمكّنه في نهاية الأمر من حيازة قدر أعظم من المعرفة يكفي لتفهّم مكانة الإنسان في هذا الكون من جهة، وإدراك العلاقات المشتبكة بين الإنسان وسائر البشر والموجودات في هذا العالم والكون بعامة من جهة ثانية.