كتاب الشبيبة الغاضبة
اكتشفت “اللامنتمي” للبريطاني كولن ويلسون عندما بلغت السّنّ التي نثور فيها لأدنى سبب، ونتمرّد على كل ما له صلة بالسلطة أيّا ما يكن مأتاها، ولا سيّما السلطة السياسية التي تنكّر رموزها منذ فجر الاستقلال لوعودهم، فاستأثروا بالمناصب والمغانم، وتركوا الشعب ينعى حظه المنكود، وفي البعض من الجهات المنسية يتحسّر على رحيل الاستعمار.
وكنت في ذلك الوقت ضمن شلّة من الشبيبة المتعلّمة يتزعّمها شابّ يتّقد حماسا وفطنة ورغبة في قلب الأوضاع القائمة. كان يمجّد كل ثائر على وجه الأرض، ويلهج بمقولة لاتينية حفظناها عن ظهر قلب لكثرة ما كان يردّدها “Fiat justicia pereat mundus” ومعناها “لا بدّ من العدل ولو فني العالم”.
ولما كنت أعترض على هذه المقولة وعلى مقولات سواها على سبيل المنطق البدهي الذي لا يحتاج في رأيي إلى دليل، أعارني مرّة ذلك الكتاب في ترجمته العربية قائلا “دعك من الأشعار والروايات، وثقّف نفسك قبل أن تعاندني!”.
أقبلت على قراءة الكتاب فوجدت فيه أصداء لـ”غريب” كامو الذي يعتبر أن الوجود عبثي، و”غثيان” سارتر الذي يرى الوجود غير ذي معنى، ولكن ويلسون لا يكتفي بتشخيص العبثية واللاجدوى، بل يحاول أن يجد للغريب حلاّ. فهو وإن عرّف “الإنسان الخارجي” Outsider أو “اللامنتمي” أو “الغريب عن الوجود” بكونه إنسانا له إحساس حادّ بعبثية الحياة، يعتقد أن وراء “النظام” الذي يتصوّره معاصروه اضطرابا وفوضى.
بحث ويلسون عن ملامح بطله الأساسية في الأدب من “فورتر” غوته وأشعار شيلر وهولدرلين وريلكه ورامبو ومالارمي وروايات هربرت ويلز وهمنغواي إلى “بحث” بروست و”جحيم” هنري بربوس و”غريب” كامو ليلاحظ تغيّر إدراكنا لطبيعة الإنسان الذي كانت فلسفة القرن التاسع عشر تؤكد أنه قابل للتطور إلى ما لا نهاية له، فيما الإنسان المعاصر في نكوص، كما يتبدّى من سيرة فان غوخ وتوماس إدوارد لورانس ونيجينسكي، وذهنه يسوق به إلى الانحسار أو الجنون أو الانتحار، ولم يعد له من رغبة سوى في هجر وضعية “الغريب” تلك، ولكنه يعجز عن ذلك لأنه ليس حرّا، بالمعنى الروحي العميق لمبدأ الحرية. ثم انتقل ويسلون إلى نيتشه وتولستوي ودستويفسكي ووليم بليك وحتى المسيح والهندي راماكريشنا ليستخلص أن ثمة حلولا تقليدية لمشكلاتنا الوجودية.
عندما انتهيت من قراءة الكتاب، أعربت لصديقي عن استغرابي لاختياره، فهو شيوعي تروتكسي ثائر على أفكار أبيه مؤدب الصبيان في الحيّ وإمام جامعه الوحيد، فيما الحلّ الذي يقترحه ويلسون لبطله الغريب يكمن في المعتقد الديني، بدعوى أن المبدأ الجوهري للدين هو الحرية، ففوجئت بأنه لم يقرأ الكتاب بعد، وما اقتناه إلا لأن مؤلفه شابّ بروليتاري عصاميّ التكوين يتحدّر من أسرة فقيرة وينتمي إلى “جماعة الشبيبة الغاضبة”، كجماعتنا. وما أعارني إيّاه إلا ليعرف ما إذا كان يستحق القراءة بعد أن غدا حديث الطلبة في مدرّجات الجامعة.
لقد ظلت تلك الحادثة عالقة بذهني، وكذا “اللامنتمي”. ورغم أن الوجودية صارت من مخلفات الماضي، وأن ذلك الكتاب ليس من الأعمال المرجعية الكبرى، فإني مدين له بفتح عينيّ على تجارب أدبية وفكرية عميقة كنت لا أزال أجهلها، ولذلك الصديق الذي أمدّني به لأنه هداني إلى ضرورة قراءة الأعمال الفكرية، وعدم القناعة بالرواية والشعر وكتب التراث.
كاتب من تونس مقيم بباريس