كاميرون والوسطية يوم لا تنفع بالكثير

تسجل عودة ديفيد كاميرون إلى الحكومة البريطانية، كوزير للخارجية، محاولة أخيرة لإنقاذ حزب المحافظين من الهزيمة في انتخابات العام المقبل. إلا أن وسطيته في أجواء استقطاب سياسي حاد، داخلي وخارجي، لن تنفع بالكثير.
كاميرون إلى جانب جيرمي هانت، وزير الخزانة، يمثلان جناحين للوسط يحاول رئيس الوزراء ريشي سوناك أن يحمي بهما سلطته من سطوة اليمين الشعبوي الذي ما يزال يمتلك نفوذا في البرلمان وفي قاعدة الحزب.
بوضوح أكبر، يريد سوناك أن يُبعد عنه شبح عودة بوريس جونسون إلى المنافسة، بوصفه نوعا من دونالد ترامب آخر، هزمته أفعاله، ولكن لم يعترف بها، ولم يتعايش معها.
المفارقة هنا هي أن ترامب يتحدى بصلافته خصومه الديمقراطيين، بينما يتحدى جونسون، بصلافة مماثلة، حزبه بالذات.
كاميرون هو أول رئيس وزراء بريطاني سابق تخلى عن مقعده في البرلمان ليعود إلى الحكومة بمنصب أدنى. اضطر سوناك إلى توفير قاعدة دستورية لتدبير هذه العودة. وذلك بطلب موافقة ملكية لتعيينه عضوا في مجلس اللوردات – المجلس الثاني، غير المنتخب للبرلمان.
لا يجرؤ أحد، ولا حتى حزب العمال المعارض نفسه، على طرح فكرة العودة إلى الاتحاد الأوروبي. ولكن التعايش في مناخ متصالح يظل مفيدا، للطرفين
يوحي هذا التدبير بشيئين: الأول، هو أن سوناك لم يجد بين 365 نائبا محافظا من تتوفر له الأهلية لتولي حقيبة الخارجية، التي أخلى مكانها جيمس كليفرلي، ولتحصين نفسه داخل حزب تعصف به القلاقل.
والثاني، هو أن الشعبوية التي لم تحقق لبريطانيا ما كانت تزعمه من منافع بالخروج من عضوية الاتحاد الأوروبي، صار من الواجب دفعها إلى الخلف لكي لا يتفاقم الضرر إذا ما عادت لتهرول طلبا للسلطة من جديد.
سوناك استخدم سلطاته كرئيس للوزراء، من أجل القول إن جونسون لم يعد مؤهلا لتولي منصب حكومي من جديد، بسبب إدانته بالكذب ومخالفة منظومة المعايير الحكومية. إلا أن ذلك قوبل بالاستخفاف حتى من جانب بعض أعضاء حكومته، ممن حافظوا على دعمهم لعودة جونسون، دع عنك عددا كبيرا من نواب الحزب، ومسؤولي الحكومة السابقين.
هانت وكاميرون ليسا من طائفة “البريكسيتيريين”. كلاهما أوروبي الهوى. هانت تولى منصب وزير الخزانة بعد الإطاحة بسلطة ليز تراس، وهي منافس ليس له موضع، بعد نحو 6 أسابيع من توليها منصب رئيس الوزراء. وكان منافسا لها ولسوناك من جهة الوسط. بينما كان كاميرون استقال من منصبه كرئيس للوزراء في 24 يونيو 2016، بعد يوم واحد فقط من إعلان نتائج استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي. دعم كاميرون البقاء في الاتحاد، إلا أن أغلبية طفيفة، تصدرها شعبويو المحافظين بقيادة جونسون، فازت بالخروج.
كان المعنى من وراء استقالة كاميرون السريعة، نوعا من رمي القفاز بوجه جونسون وعصابته التي فرضت هيمنتها على الحزب.
يعود كاميرون لسببين. الأول، لأنه لم يحقق نجاحا في عالم الأعمال خارج السلطة. أي أنه لم يجن حفنة ملايين كتلك التي جناها جونسون بسرعة خارقة. والثاني، لكي يدعم رئيس وزراء يبدو كمثل اليتيم على مائدة اللئيم، ولكن أيضا لكي تستعيد سلطة المحافظين التوازن الذي فقدته منذ أن دخلت بريطانيا مستنقع الفوضى بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي.
كاميرون محافظ تقليدي، براغماتي، يعتبر السياسة هي أن تضع رجلا في كل مكان، تتبنى لغة وسطية، ومعالجات وسطية، وتراهن على جني المنافع، من الموقف واللاموقف. ما يجعل منصبه كوزير للخارجية مناسبا له، أكثر بكثير من منصب رئيس للوزراء، أو حتى قيادة الحزب الذي وقف على رأسه لنحو عقد من الزمن.
لا يجرؤ أحد، ولا حتى حزب العمال المعارض نفسه، على طرح فكرة العودة إلى الاتحاد الأوروبي. ولكن التعايش في مناخ متصالح يظل مفيدا، للطرفين.
الشعبوية البريطانية ما تزال تملك نفوذا، ولا يريد أحد أن يجد نفسه في مرمى سهامها. وفي بيئة ما تزال تشكل أزمات مهاجري القوارب والتضخم والديون وعجز الموازنة تملأ الأجواء ضجيجا، فإن تدابير الوسطية الناعمة تبدو وكأنها هي السبيل الوحيد، والذي لا نفع فيه في عين الوقت، لأنه لا يوازي حجم الدراما التي تسبب بها البريكست.
لا يبدو كاميرون حقودا كجونسون. ولا يستمرئ الأكاذيب مثله. وأثبت باستقالته أنه ليس شغوفا بالسلطة “مهما كلف الثمن”. وحرص على احترام معايير الخسارة، عندما لم ينجح في قيادة استفتاء بريكست
يعني ذلك أن الهزيمة لا ريب فيها في الانتخابات البرلمانية المقبلة. استطلاعات الرأي، حتى وإن لم تكن شاهدا موثوقا، إلا أن الفارق الكبير في النسب لصالح حزب العمال، يقول إن بقاء المحافظين في السلطة بعد عقدين من الفوضى بات حلما بعيد المنال.
ولأجل عظمة المفارقة، فإن عصابة جونسون هي التي ستقف وراء الهزيمة. لأنها سوف تعود لتعصف بالحزب في سجالاتها المألوفة المعادية للاتحاد الأوروبي والهجرة.
سويلا برافرمان، وزيرة الداخلية المقالة، وبريتي باتيل وزيرة الداخلية السابقة، وجاكوب ريس موغ، ومايكل غوف، فضلا عن جونسون نفسه، لن يترددوا في مهاجمة رئيس وزراء باهت مثل سوناك. لا يبدو بعين اليمين مؤهلا للعيش في منزل ونستون تشرشل ومارغريت ثاتشر.
مهاجرة تحارب المهاجرين، سمراء وسط البيض، بوذية متزوجة من يهودي، مثل برافرمان، تستطيع بمعاني الاستخذاء لانتمائها الجديد، أن تعتبر سوناك ليس أبيض بما يكفي للجلوس في هذا المقعد.
وحيث أن الأزمة الاقتصادية لن تعثر على نهاية سريعة، فإن أفضل ما يمكن للوسطية أن تقدمه هو أن تحد من حجم الهزيمة التي يتوقع المحافظون أن يتكبدوها.
كاميرون الذي قاد حزب المحافظين في العام 2005، من صفوف المعارضة، ونجح في إعادته إلى السلطة في انتخابات العام 2010، ربما يأمل بأن يعود إلى لعب الدور نفسه، عندما تحل الهزيمة. ولعله يتمناها أكثر من فوز يمنح سوناك فرصة أطول.
هذه الهزيمة، هي الشيء الوحيد الذي يمكنه أن يطلق رصاصة الرحمة على جونسون وعصابته. هذه العصابة سبق وأن أطلقت عليه النار إلا أنها لم تقتله.
لا يبدو كاميرون حقودا كجونسون. ولا يستمرئ الأكاذيب مثله. وأثبت باستقالته أنه ليس شغوفا بالسلطة “مهما كلف الثمن”. وحرص على احترام معايير الخسارة، عندما لم ينجح في قيادة استفتاء بريكست. إلا أنه لم ينجح في أن يكون “رمزا” للفريق الذي حمله إلى السلطة. لم يملك كاريزما توني بلير من جهة اليسار. ولا كاريزما جونسون من جهة اليمين. ربما ليثبت أنه وسطي في كل شيء. سوى أن الوسطية لا تنفع في أوقات الاستقطاب العنيف.