كامل إدريس يعد السودانيين بحكومة مدنية مستقلة دون أن يهتدي لطريق لتشكيلها

حمل الخطاب الثاني لرئيس الوزراء المكلف كامل إدريس جرعات تفاؤل لمستقبل أفضل للسودان من خلال حكومة "مدنية مستقلة" ستسعى لنقل البلاد إلى "مصاف الدول المتقدمة" وتوفر "العيش الرغيد"، وبغض النظر عن النوايا، لا يبدو أن جزءا كبيرا من السودانيين لديه ثقة في قدرة إدريس على تنزيل خطابه على أرض الواقع في ظل الحرب القائمة، وعدم امتلاكه لسلطة قرار إنهائها.
بورتسودان (السودان) - شككت أوساط سياسية سودانية في التعهدات التي قطعها رئيس الوزراء المكلف كامل إدريس، بالقطع مع سياسة المحاصصة والاسترضاء، وتشكيل حكومة مدنية مستقلة.
وأشارت الأوساط إلى أنه كان من المفترض أن يعلن إدريس عن التشكيلة الحكومية قبل فترة، لكن الصراع على الحصص بين القوى المتحالفة مع الجيش أدى إلى تأجيل الخطوة.
واعتبرت تلك الأوساط أن حديث إدريس عن تشكيل حكومة مستقلة هو مغالطة، ذلك أن الحكومة المنتظرة تمثل السلطة التنفيذية لطرف رئيسي في الصراع وهو الجيش وحلفاؤه، فضلا عن كون اللجان المشكلة لاختيار الطاقم الوزاري مخترقة بالأساس من قبل المؤتمر الوطني المنحل، وبالتالي القول بالاستقلالية ليس سوى ادعاءات يجري تسويقها للرأي العام المحلي وللمجتمع الدولي.
وقال رئيس الوزراء المكلف الخميس، إنه قرر تشكيل حكومة من 22 وزيرا من الكفاءات المستقلة غير الحزبية، تهدف إلى معالجة مشكلات السودان المزمنة.
وذكر إدريس في ثاني خطاب له بعد تعيينه من قبل قائد الجيش الفريق أول عبدالفتاح البرهان، أن البلاد تحتاج إلى رجال دولة قادرين على تحقيق التنمية والاستقرار ووضع السودان ضمن مصاف الدول المتقدمة.
كامل إدريس لم ينجح حتى الآن في طرح تشكيلة حكومية، رغم مرور شهر على أداء القسم
وشدد في خطاب متلفز على رفضه القاطع لمبدأ “المحاصصة والمحسوبية بكافة أشكالها،” مؤكدًا على أن التعيينات ستكون عادلة وتعتمد على الكفاءة والخبرة والنزاهة.
وفي خطوة لافتة تم فتح المجال للتقديم لشغل الوزارات المختلفة في الحكومة، وسط مخاوف من أن الهدف تمكين الحركة الإسلامية التي تفرض وجودها في لجان الاختيار.
وأكد إدريس على احتفاظه بحقه كرئيس للوزراء في اختيار أعضاء حكومته باستقلالية تامة، ووجه نداءً “لكل الكفاءات الوطنية المستقلة” لتقديم سيرهم الذاتية عبر وسائل تواصل سيتم الإعلان عنها، وذلك بهدف بناء “مخزون قومي مركزي” من الكفاءات لرفد الخدمة المدنية.
ومرَّ أكثر من شهر على أداء كامل إدريس للقسم رئيسًا للوزراء أمام قائد الجيش، ويعكس خطابه الأخير أن التشكيل الحكومي لن يرى النور خلال الشهر الحالي.
وأوضح إدريس أن الحكومة ستكون الأولى في تاريخ السودان تجمع بين كونها “حكومة تكنوقراط”، و”لا حزبية”، حيث لا ينتمي أعضاؤها للأحزاب السياسية، لتمثل بذلك صوت “الأغلبية الصامتة.”
ونوّه إلى أن الحكومة الجديدة تحمل شعار “الأمل”، ورسالتها هي “تحقيق الأمن والرفاه والعيش الرغيد لكل مواطن سوداني”، فيما تتمثل رؤيتها في “الانتقال بالسودان إلى مصاف الدول المتقدمة”، وستقوم على قيم أساسية هي: الصدق، الأمانة، العدل، الشفافية، والتسامح.
وكشف إدريس أن الحكومة “ستتكون من 22 وزارة، مع التركيز على وزارات حيوية مثل الدفاع والداخلية لتحقيق الأمن القومي، والزراعة والثروة الحيوانية والمعادن باعتبارها “العمود الفقري للاقتصاد.”
خطاب رئيس الوزراء المكلف حمل جرعة تفاؤل كبيرة بمستقبل أفضل للسودانيين، لكن المؤشرات على أرض الواقع تشيع أجواء بعكس ذلك
وبحسب إدريس فإنه قرر دمج وزارة التجارة مع الصناعة والتعاون الدولي مع وزارة الخارجية، والبنى التحتية مع النقل لتعمل على إعادة ما دمرته الحرب كما استحدث وزارة بمسمى وزارة البيئة والتنمية المستدامة، ووزارة باسم التحول الرقمي والاتصالات، وإضافة السياحة لوزارة الثقافة والإعلام، فضلاً عن إضافة التنمية الريفية لوزارة الحكم الاتحادي.
وأعلن عن إنشاء ثلاث مجالس وهيئات منها مجلس خاص بالعمل الاقتصادي وآخر للاستثمار وتأسيس هيئة مستقلة معنية بالنزاهة. وتعهّد رئيس الوزراء بإجراء مراجعة شاملة “لقائمة طويلة من المجالس والهيئات والأجهزة والمفوضيات غير الضرورية،” التي وصفها بأنها “حكومات موازية تستنزف المال العام،” مؤكدًا أنه سيتم العمل على إلغائها أو دمجها في الوزارات، والإبقاء على الحد الأدنى منها للضرورة القصوى.
ويرى مراقبون أن خطاب رئيس الوزراء المكلف حمل جرعة تفاؤل كبيرة بمستقبل أفضل للسودانيين، لكن المؤشرات على أرض الواقع تشيع أجواء بعكس ذلك.
ويشير المراقبون إلى أن إدريس يتحدث وكأنه المتحكم في المعادلة القائمة حاليا، وبيده قرار السلم والحرب، لكن في واقع الأمر هو مجرد واجهة يتخذها الجيش لتحسين صورته في الداخل والخارج.
ويشير المراقبون إلى أن إدريس لم ينجح حتى الآن في طرح تشكيلة حكومية، رغم مرور شهر على أداء القسم، وذلك لأن القرار بيد قيادة الجيش، التي تحاول جاهدة اليوم التوفيق بين مطالب الحلفاء الكثيرة.
إدريس يتحدث وكأنه المتحكم في المعادلة القائمة حاليا، وبيده قرار السلم والحرب، لكن في واقع الأمر هو مجرد واجهة يتخذها الجيش
من أكبر العقبات التي تواجه قيادة الجيش هي “حصص الحركات المسلحة” في الحكومة. فقد أعلن قادة من الحركات، وعلى رأسهم جبريل إبراهيم، أن أي تعديل في الوزارات التي آلت إليهم بموجب اتفاق جوبا للسلام غير مقبول إلا بمشاورة تلك الحركات.
ومع أن اتفاق جوبا، من الناحية الزمنية والسياسية، فقد شرعيته؛ فقد أُقصي أحد أطرافه الأساسيين (تحالف الحرية والتغيير) بانقلاب أكتوبر 2021، كما أن أجل الاتفاق الزمني قارب على نهايته. فضلًا عن أن الاتفاق تضمّن دمج قوات الحركات المسلحة في الجيش، وهو أمر لم يُنفذ.
وواحدة من أكثر المفارقات، بحسب مقال للكاتب الصحافي حسب الرسول العوض ابراهيم، إثارة للقلق، ما نُشر عن أن أحد جرحى العمليات العسكرية التابعين لتنظيم “غاضبون” قد يُمنح منصبا وزاريا.
و”غاضبون”، كان أحد الأذرع التي اخترقتها منظومة المؤتمر الوطني وظهر بمظهر الفصيل الثوري الراديكالي. ومع اندلاع الحرب، أُعيد تأهيله إعلاميًا كحركة وطنية شبابية، بينما هو في حقيقته، ليس سوى امتداد لميليشيات النظام السابق، دخلت الحرب تحت عباءة “الوطنية” بحثًا عن السلطة والنفوذ.
بالتزامن، خرجت أصوات إعلامية محسوبة على الإسلاميين تُحذّر إدريس من تعيين “العملاء والخونة”، في إشارة إلى التيارات المدنية التي رفضت المشاركة في الحرب. ويبدو أن الرسالة واضحة: السلطة الجديدة يجب أن تعكس “تضحيات” من شاركوا في القتال، لا “خيانة” من ظلوا خارج المشهد الدموي.
ويقول العوضي في مقاله الذي نشر في صحيفة “التغيير” المحلية إن ما يتشكل الآن في بورتسودان ليس حكومة، بل توازن قلق بين قوى السلاح والمال والجيش، دون أي أفق سياسي حقيقي. ميليشيات تتناسل، وفلول تعود، وحركات تسعى للمكاسب على ظهر بندقيتها، بينما يظل الشعب غارقًا في الأزمات: من الجوع والنزوح، إلى انعدام الخدمات الأساسية.
وفي خضم ذلك، يبدو كامل إدريس- الذي جاء يحمل خطابا مدنيا تكنوقراطيًا- مجرد واجهة في سلطة هجينة، تدار فعليًا من قبل التحالف العسكري- القبلي المسيطر. وإن لم يكن قادرًا على فرض رؤية مستقلة أو إحداث اختراق في هذا المشهد المعقد، فإن السؤال الأهم لم يعد: “متى يُعلن حكومته؟” بل: “هل هو فعلاً من يشكّلها؟”