كاتب عراقي على خطى بورخس مع أشباحه الخارجة من المكتبة

الكاتب قارئ أولا، والعالم بين يديه ليس سوى مكتبة، وحتى أبطاله سيجدون في تلك المكتبة أقنعة جحيمهم وفردوسهم، وينهلون منها قاموس علاماتهم لكي يكتشفوا العالم، ويعيشوا أنسنة الليالي التي يشاطرون فيها قراءهم حكاياتهم وأسفارهم الواقعية والمتخيلة. وغالبا ما يحكي لنا الكتّاب عن علاقتهم بالقراءة والمكتبة، كما هو شأن ألبرتو مانغويل مثلا.
الجمعة 2017/12/29
الكتب عوالم من الشخصيات والرؤى

يضعنا كتاب “النوم إلى جوار الكتب” للقاص والروائي لؤي حمزة عباس، عند العتبة الساحرة لعالم الكتب وأسرارها، ولخطورة ما تمارسه القراءة من وظائف بوصفها صاحبة الأسر السعيد، كما يسميها ألبرتو مانغويل، وهو يجاور مكتبة بورخس.

من الصعب تجنيس هذا الكتاب، أو إخضاعه لجنوسة سردية محددة، فهو يجمع بين أفكار المقال والحكي، وبين ما يشبه وجها آخر للسيرذاتية، لكنّه في الجوهر يكشف عن حساسية سردية لمن يحاول اصطناع عتبة تأملية لذلك الحكي، أو لرؤية العالم من خلال سرديات المقال وهي تلتقط ما تقترحه الكتب واللوحات والموسيقى، حيث يتعالق بهواجسها، ويحدس بوجودها عبر صناديقها ورفوفها وشغف أشباحها، إذ تتحول تلك الهواجس إلى مرئيات وأصوات وخيالات وإشباعات، إلى حدّ أنّ فكرة المكتبة تتحوّل إلى بديل للحياة، أو إلى شكل لمواجهة رعب الغياب، حيث الحرب والمحو، ورهاب الموت، لا سيما وأنّ حمزة عاش في مدينة البصرة التي ورطها المحاربون بحروب دائمة، وبموت غرائبي ظل يساكن الناس والشوارع والبيوت، وحتى حافات الماء، والتي يقول عنها “يحدث أن تولد المكتبة في اللحظات الفاصلة بين الحياة والموت، وتنمو في ملاجئ الحروب المطلّة على الأرض الحرام. ليس ثمة ما هو أروع من نشدان الحياة في أيام الحروب، والمكتبة بهذا المعنى هي الحياة التي تولد في ركن ملجأ تحت الأرض”.

أجناسية مغايرة

تغيير زاوية النظر في التعاطي مع الكتابة وأجناسيتها لا تعني بالضرورة تقويضا لما هو قار في اللاوعي السردي، بقدر ما أنّ الكاتب حاول أنْ يضعنا أمام قصدية للتجاوز في توصيف مفهوم الجنس الأدبي، وباتجاه احتمال وضع المكتبة بوصفها فضاء ثقافيا، ومجاورة الكتب بوصفها أفقا مفتوحا للقراءة ولتعديل زاوية نظر السارد والقارئ، ولتحويل تلك “القراءة إلى طقس انبعاث لأن كل قارئ يضمن للكتاب قدرا من الخلود والبقاء” كما يقول مانغويل.

ضمّ الكتاب اثنين وعشرين موضوعا، تدور كلها حول ما يتبدى من حساسية القراءة والمشاهدة والإنصات التي يمارس طقوسها الكاتب، إذ تتشكل هذه العوالم على تقانة توصيف الكتب بوصفها مجالا، أو فضاء، أو لعبة في المراقبة والتلصص، بدءا من “شارع المتنبي، مراقبة أحزان العالم، عاصفة الراديو، عشق السيدة، الإنصات إلى القصة القصيرة”، وليس انتهاء بـ”معرفة الصورة الفوتوغرافية، في معرفة المكان”.

الكتاب ضم 22 موضوعا، تدور كلها حول ما يتبدى من حساسية القراءة والمشاهدة والإنصات التي يمارسها الكاتب

هذه الموضوعات/ المدونات تكشف عن وعي الكاتب لحساسية الجنس المكتوب، ولأثره على التحفّز على قراءته وقبوله، وتلقي ما يقترحه من أفكار وصور وتمثيلات رمزية، فشارع المتنبي يبدو وكأنه مكتبة لا حدود لها، تتساكن فيها أرواح تشاطرنا وجودنا، وفي “الإنصات للقصة القصيرة”، يكشف عن لعبة سردية لوعيه الشخصي إزاء فكرة التقاط ما يتساقط من حيوات أو ميتات أصدقائه أو أبطاله، وكأنه يمارس عبرها الإنصات بوصفه سردا، وأنّ لعبته تكمن في تتبع أرواحهم وأصواتهم، ومصائرهم.

وفي “فضيلة الاعتراف” يأخذنا الكاتب إلى ما يشبه التطهير، حيث تتحول الكتابة إلى لحظة تدوين إنسانية، لها طقوسها وغوايتها، مثلما يأخذنا الكاتب عبرها إلى “رؤيا العالم”، حيث تبدو بطولة الإنسان، أو صورتها في ذاته، وكأنها “بيت العلامات” تلك التي يكتب مدوناتها مؤلفون أحبهم، ومؤرخون أو رجال حاولوا سبر السرائر والخفايا والمسكوت عنه، وكلّ ما هو خبيء في يوميات الوقائع والأحداث، أو حتى الكتب التي يكتبها موظفو السياحة الذين يرسمون للمدن والخرائط عوالم تصلح للإعلان والفرجة والمتعة.

تدوين الشغف

الكاتب هنا، قد يملك عين الكاميرا، أو قرطاس المُدوّن، لكنه يملك أكثر شغف الكاشف عن توريات أقنعة الشخصيات، وعن تجليات الأمكنة، تلك التي يتكشّف وجودها عبر أساطيرها وأسرارها، أو تتبدى صورها عبر تاريخها الغامر بسير الطغاة والضحايا، وبيوميات مدنها المفتوحة على حروب وهجرات متوالية.

“يُبحر عباس بين عوالم عدة، فيسير بين ركام حياته الخاصة إلى حيوات الآخرين، وصولا إلى الفن، تشكيلا وغناء، بين محلية الإبداع إلى عالميته، بين موضوعات عراقية وعربية”.

هذا ما قاله الناشر في الغلاف الأخير لكتاب لؤي حمزة عباس، وكأنّ نشر هذا الكتاب كان تعبيرا عن الرغبة بتدوين الشغف، وعن معرفة الطرق التي حاول أنْ يذهب عبرها لاستنطاق الكتب والمدونات السمعية والبصرية، أو لاستقراء حمولاتها، وباتجاه أنْ يمارس وظيفة مَن يراقب الكيفية التي تتشكّل بها المعرفة، وطاقة الاستبصار، تلك التي تمنح الكاتب قوة عميقة للخلق السردي، ولذة في جرأة الكشف ومرافقة أبطال وشخصيات يخرجون له من الكتب، وعبر غوايته يلتقي بالكُتّاب عند هاجس بحثهم عن الخلود، والذين يتماهى معهم الكاتبُ بوصفه المُصاب بعدوى المساكنة، والشغف بلذة ما يتهرّب إليه، أو ما ينوشه منها، أو ما يلتقطه وهو يقرأ، أو يرى، أو يسمع، وكأنّ سيرورة اللذة تصير الجوهر في هذه اللعبة الحسية، تلك التي تجعله الأقرب إلى روح بورخس وهو يسمع ويرى أصوات أشباحه الخارجة من المكتبة.

نذكر أن كتاب “النوم إلى جوار الكتب” للؤي حمزة عباس صدر بالاشتراك بين دار شهريار بالبصرة ودار الرافدين ببيروت.

14