قيثارة السماء

أيام قليلة تفصلنا عن إطلالة العام التسعين في حياة قيثارة السماء، وسيدة الصباح والمساء وجارة السفر وسفيرة لبنان إلى النجوم، جوهرة الفن وأيقونة الغناء، السيدة فيروز، التي يحكم عليها القدر بإحياء الذكرى بينما شعبها يواجه الحرب، ووطنها ينتفض تحت القصف، وأغلب رفاق الدرب وشركاء الرحلة قد غادروا الحياة.
عرفت فيروز بالعمود السابع لقلعة بعلبك، وبالصوت المخملي الشفاف، والحنجرة الملائكية، وبالمطربة التي سبقت العصر، وأوجدت لنفسها المكانة التي تليق بها بين أصوات الدرجة الأولى في تاريخ الغناء العربي، والتي أصبحت جزءا مهما من حياة الناس وأحلامهم وأحزانهم وذكرياتهم واستقبالهم لكل يوم جديد، ولكل شتاء وربيع وصيف وخريف. تضحك مع الضاحكين ولكن بوقار النجمة الخجول، وتحزن مع الحزانى لأجل وطن مستباح أو إنسانية مستهدفة.
يقول أنسي الحاج "عندما أكتب عن فيروز أشعر أنني محمول إلى قلوب الناس الكثيرين الذين أحلم، ككاتب، بالوصول إليهم. وعندما أكتب عن فيروز أرى الموضوع يكتبني عوض أن أكتبه، ويملأني إلى حد أضيع معه في خضم من المعاني والصور والأفكار، لا أعود أعرف كيف أبدأ ولا أعود أرغب أن أنتهي. وغالبا ما قيل عن كتاباتي عن فيروز إن فيها مبالغات، وأقسم بالله أن ما يراه البعض مبالغات ليست في الواقع غير شحنات لفظية صادقة ولكنها شحنات لفظية لا غير لتغطية فشلي ككاتب في أن أعكس ما يحمله لي كإنسان، وما يعنيه لي وما يفجره فيّ، صوت يلهم ويفجر ثلاثة أشياء يحتاج عالمنا إليها: الحنان والإيمان والحماسة".
يضيف الحاج الذي أحب فيروز بجنون الشاعر الملهم والحواري العاشق "في حياتنا لا مكان لفيروز، كلّ المكان هو لفيروز وحدها، ليكن للعلماء علم بالصوت وللخبراء معرفة، وليقولوا عن الجيِّد و العاطل، أنا أركع أمام صوتها كالجائع أمام اللقمة، أحبه في جوعي حتى الشبع، وفي شبعي أحبه حتى الجوع، أضم يديّ كالمصلّين وأناديكَ: احفظْها! احفظها! إذا كنت الله فهي برهانك، وإذا لم تكن أنت الله فهي بديلك".
ولدت فيروز في 20 نوفمبر 1935، إلا أنَّ وثيقةً غير معتمدة بختم اسمي للسجل المدني اللبناني، تشير أنَّ تاريخ ولادتها هو 20 نوفمبر 1934، وفي 30 مايو 1952 كانت صبية في الثامنة عشرة من عمرها عندما واجهت الجمهور بمفردها لأول مرة في حياتها، حيث سجلت لصالح إذاعة دمشق من ألحان الأخوين رحباني، قصيدة "عنفوان" لشاعر سوريا الكبير عمر أبي ريشة. كانت تلك بدايتها الحقيقية رغم أنها التحقت بالإذاعة اللبنانية في العام 1950، وهناك التقت بعاصي الرحباني، الذي كان وقتها ملحنا مبتدئا يعزف على الكمان ويقدم برامجه الموسيقية في الإذاعة، يقول عن ذلك اللقاء "كنت أقوم بإعداد برامج موسيقية ـ غنائية للإذاعة اللبنانية، وذات يوم دعاني زميلي الفنان حليم الرومي، وكان يشغل مركز رئيس القسم الموسيقى بالوكالة، للاستماع إلى صوت جديد، فرأيت فتاة صغيرة تحمل كتابا ومعها والدها، كما استمعت إلى صوتها الذي وصفته بـ'لا بأس'، إلا أنني آمنت أن هذه الصبية تصلح للغناء، بينما رأي أخي منصور كان مخالفا لرأيي، وهو عبّر عنه بالقول إنها لا تصلح على الإطلاق للغناء الراقص، ورغم ذلك بدأت أعلّمها، فكانت في المحصلة أحسن من غنى هذا اللون".
في 23 يناير عام 1955 أعلن عاصي وفيروز زواجهما لتنطلق رحلة الإبداع والإشعاع وأسطورة الإنجاز الموسيقى العظيم في ثورته على البائد والسائد بين فيروز والأخوين رحباني.