قوة شرعيتك لا تمنع معارضتك سيدي الرئيس

الإمتحان الأصعب لا يخص سعيّد فحسب، بل يستكشف صبر الدوائر المقربة في تعاملها مع النقد الموجه للرئيس الجديد.
الثلاثاء 2019/10/15
فوز رجل قناعات بلا وعود سياسية

أعلن فوز قيس سعيّد بالرئاسة في تونس عن ميلاد ساعة صفر جديدة، لن تخرج لا عقارب ساعتها ولا بوصلتها عن فلك ودوائر الاختبار الجديد لا للرئيس الجديد فحسب، بل إن الامتحان الأصعب والجدّي سيكون موجّها لاستكشاف مدى صبر ورصانة الدوائر المقربة منه لدى تعاملها مع ما سيوجّه حاضرا ومستقبلا من انتقادات سياسية أو إعلامية لساكن قرطاج الجديد في السنوات الخمس المقبلة.

لا يملك المتابع لسيرورة الأحداث المتسارعة المرافقة لإعلان نتائج الدور الثاني من انتخابات الرئاسة في تونس – سواء كان من معارضي سعيّد ومنتقديه أو من أتباعه ومن مادحيه – سوى أن يحتكم لإرادة الناخب وثورة الصندوق التي منحت الرجل بلا أي شك استحقاقا وحافزا هاما ترجمته أصوات أكثر من ثلاثة ملايين ناخب منحوا ثقتهم في خبير القانون الدستوري الوافد الجديد والنجم الساطع حديثا في عالم السياسة.

إن ما يريح غير المتّسقين في المواقف والتوجهات السياسية والفكرية مع قيس سعيّد أن الرجل سيحصّن شرعيته ورئاسته طيلة خمس سنوات مقبلة، أولا بالثقة العالية لشريحة واسعة من الشعب، وثانيا بدرايته الواسعة بالقانون وبالدستور أي أن ساكن قصر قرطاج سيكون بعد أدائه اليمين الدستورية من خير العارفين وبلا منازع بما عليه من واجبات وما له من حقوق.

لكن، قبل أن تطأ قدما سعيّد بصفة رسمية السجّاد الأحمر المؤدي مباشرة إلى الباب الرئيسي وإلى بهو قصر الرئاسة بقرطاج، طفت مخاوف كثيرة على سطح مستقبل تونس كان عنوانها الأساس من المستفيد من صعود سعيّد إلى سدة الحكم؟

هذه التوجسات أطلت برأسها وامتزجت بمسار ومسيرة الرجل ليس فقط لدى إعلان فوزه الساحق، بل إن فتيلها اشتعل منذ الوهلة التي أعلن فيها نيته الترشح للرئاسة لتستمر إلى غاية تمكنه من تحقيق حلمه وحلم شريحة واسعة من داعميه ولتفرض نفسها على الساحة السياسية، ليس لأنها تتعلق بصفة مباشرة بقيس سعيّد أو بخياراته التي توصف بأنها شعبوية مزوّقة بلغة عربية فصحى تذهل العقول وتسحر مسامع المتتبعين، بل إن تجاذباتها تتمحور بشكل خاص حول ما ظهر من ممارسات لدى الكثير من أنصاره والتي توقد نيران حبر الأقلام كي تحذّر من مخاطر العودة بتونس خطوات كثيرة إلى الوراء.

إن الحرب الأولى التي أشعل جبهتها، البعض من أنصار سعيّد ترتدي جبّة الثورة وتصنف الناس وفق مقياس “من مع الثورة ومن ضدّها”، أي بمعنى أن من قاطع الانتخابات أو وضع ورقة بيضاء ولم يصوت لسعيّد هو وفق ما يروجونه إما مصطف ضد الثورة أو أنه ليس وطنيا.

رئيس جديد بقوة الشرعية الشعبية
رئيس جديد بقوة الشرعية الشعبية

ويقود هذا التيار أنصار كُثر ممّن يُتّهمون إلى اليوم بأنهم لا يعدون أن يكونوا سوى “ميليشيات روابط حماية الثورة” والتي وصفها الشاعر التونسي الراحل الصغير أولاد أحمد بأنها “ميليشيات وافدة وغير محلية” تنطق باسم الإسلاميين وتورطت في فترة حكم الترويكا بين 2011 و2013 بالتعنيف وبالاعتداء على كل من يعارض خيارات السلطة من مثقفين ومبدعين وصحافيين ونقابيين وقد وصلت يد عنفهم في تلك الفترة حتى إلى “بطحاء محمد علي” الساحة الشهيرة لأكبر نقابة في تونس الاتحاد العام التونسي للشغل.

أمّا الصراع الثاني الذي تدفع لتدشينه نفس الفئة تقريبا، فقوامه العودة إلى رفع شعار “الشرعية” في وجه كل منتقد لخيارات الرئيس أو توجهاته السياسية والفكرية.

وفي كل هذا الزحام ما بقي الآن عليك “سيدي الرئيس”، “رئيس كل التونسيين” سوى أن تعلن في أول خطاباتك من على منصة قصر قرطاج موقفك الصريح لتقطع الشك باليقين، فإما أن تكون حاملا لتوجههم وهذا خيار يمكن مناقشته أو أن تعلن البراءة منهم لتجنب العودة بالبلاد إلى فوضى أدت سابقا إلى حمام دم كاد يغرق تونس بلا رجعة في مستنقع الخطابات المتشددة.

حتما عند طرح هذه النقاط، سيهرول أكثر أنصار الرئيس الجديد تشدّدا، للقول إن الإعلام بدأ في دق طبول الحرب على سعيّد حتى قبل دخوله القصر، لكن عودتهم إلى هذه المظلومية لن تكون مبررة، فلدى مخاوفنا مبررات كثيرة، دُشنت أولى دلائلها دقائق فقط بعد الإعلان عن فوز سعيّد بالرئاسة بعدما اعتدى بعض أنصاره بالعنف على صحافيات وصحافيين في شارع الحبيب بورقيبة وسط العاصمة، لا لأنهم رفعوا شعارات ضد الرئيس الجديد بل إن تهمتهم الوحيدة هي الانتماء إلى محطات تلفزيونية وصحف انتقدت سعيّد وغموض برامجه بل وحذّرت من خطورة بعض أنصاره.

إن أهم ما يمكن أن يتحصّن به الرئيس الجديد هو قوة الشرعية الشعبية وله الأحقية في ذلك، لكن ليس معنى ذلك أن يُشرَّع لأنصاره وتحت عباءة هذا المصطلح التجريم أو التنكيل بكل من يعارضه الرأي، فالشرعية دائما ما كانت سلاحا ذا حدين، إن الشرعية قد تؤدي إلى التقديس المفرط للشخص وقد تنقلب إلى الضد لتصنع دكتاتورا جديدا، فهتلر نفسه وصل إلى السلطة بصناديق الاقتراع، لكن مزاجه الشمولي أولا وصُناعه ثانيا ورطوه في إطالة النظر في مرآته ليتحوّل إلى أحد أكبر رموز الفاشية في تاريخ الإنسانية.

7