قوة الدولار الأميركي تضع العملات أمام سيناريو الانهيار

أحدث الصعود الجامح للدولار الأميركي الذي يسجل مستويات قياسية متتابعة نقاشات في مجتمع المحللين، وأثار مخاوفهم من انهيار عملات أخرى، خاصة وأن قوته أوجدت وضعا لا يمكن تحمله ويهدد بأزمة مالية لم يشهدها العالم منذ عقود.
نيويورك - يتابع المحللون باهتمام تأثيرات قوة الدولار الأميركي على اقتصادات العالم، كونه يضع العديد من العملات أمام سيناريو قاس، بعدما برزت تحذيرات من أنه سيقوض الأصول ذات المخاطر العالية والتي يمكن أن تنتهي بأزمة مالية أو اقتصادية.
وبفضل الارتفاع المفاجئ في أسعار الفائدة الذي أقره الاحتياطي الفيدرالي الأميركي (البنك المركزي) وتحسن النشاط الاقتصادي، دفع الدولار الجنيه الإسترليني والروبية الهندية والجنيه المصري والوون الكوري الجنوبي نزولا إلى مستويات لم تُعرف من قبل.
ويقول براد بيكتل من مجموعة جيفريز لوكالة الصحافة الفرنسية إنه “من الواضح أننا نشهد تحركات قصوى ويمكن للدولار أن يذهب أبعد من ذلك بكثير. لذلك قد ينتهي بنا الأمر إلى وضع كارثي بالنسبة إلى بعض العملات”.
وسجل مؤشر العملة الأميركية هذا الأسبوع أعلى مستوى له خلال عقدين بينما سجل الجنيه الإسترليني أدنى مستوى له على الإطلاق مقابل الدولار.

براد بيكتل: قد ينتهي الأمر إلى وضع كارثي إذا لم يتم كبح الدولار
كما تراجع اليورو أمام الدولار إلى أقل مستوياته منذ 2002، وتراجع الين الياباني إلى أقل مستوياته منذ 1998.
وأعلن البنك المركزي الصيني الأسبوع الماضي عن إجراءات جديدة لدعم اليوان في مواجهة الدولار بعد تراجع العملة المحلية إلى أقل مستوياتها منذ الأزمة المالية العالمية التي تفجرت في خريف 2008.
وتمثل التقلبات الشديدة في العملات ضغوطا أخرى على الاقتصاد العالمي وأرباح الشركات، والتي من المتوقع أن تنخفض مع بدء تأثير رفع أسعار الفائدة خلال الصيف على الإنفاق.
وكتب محللون في مورغان ستانلي، منهم مايكل ويلسون، في مذكرة نشرها البنك الاثنين الماضي إن “أدنى مستويات للأسهم العوائد سيحددها على الأرجح مسار نمو الأرباح والاقتصاد، وليس التضخم أو رفع المركزي الأميركي لأسعار الفائدة”.
وأوضحوا أن الضغوط من ارتفاع الدولار ستساعد في دفع المؤشر ستاندرد آند بورز 500 إلى مستوى منخفض جديد بحلول مطلع 2023.
ولكن البعض من المصرفيين وخبراء الاقتصاد يعتقدون أن التحرك العالمي المنسق لوقف صعود الدولار مسألة وقت.
ونسبت وكالة بلومبرغ إلى ستيفن بارو من مجموعة ستاندرد بنك المصرفية في بريطانيا، إن “تحرك البنوك المركزية في العالم بشكل منسق لمواجهة الارتفاع المستمر لقيمة الدولار الأميركي، يبدو أمرا حتميا لأول مرة منذ ثمانينات القرن العشرين”.
وأضاف “حتى إذا كان قرار التدخل بالنسبة إلى الولايات المتحدة ودول أخرى أمرا غير مريح لكنها ستضطر إلى ذلك”.
ولم يكن لتحرك معظم البنوك المركزية، مثل الفيدرالي الأميركي وتشديد السياسة المالية دور كبير حتى الآن عدا عن تدخل بنك اليابان المباشر في سوق الصرف الأجنبي لدعم الين الأسبوع الماضي.
ستيفن بارو: التحرك المنسق لمواجهة الوضع الراهن يبدو أمرا حتميا
ويخشى الكثيرون من أن الأمر نفسه يمكن أن ينطبق على تدخل بنك إنجلترا الذي أدى إعلانه الأربعاء الماضي عن شراء السندات البريطانية إلى تحسن سعر صرف الإسترليني.
وعلق باتريك أوهير من موقع “بريفينغ.كوم” بقوله “لدينا شكوك في أن تكون خطة بنك إنجلترا هي حل نهائي للقلق الذي يلقي بثقله على الإسترليني وسوق السندات”.
وليست المملكة المتحدة الوحيدة التي تعاني من وضع سيئ، فهناك بلدان ناشئة في وضع أسوأ. فقد فقدت الروبية الباكستانية 29 في المئة من قيمتها في عام واحد مقابل الدولار.
ووفق وين ثين من مجموعة بي.بي.أتش انفسترز سيرفيسز خسر الجنيه المصري 20 في المئة فباكستان ومصر وسريلانكا وبنغلاديش “تعاني جميعها من نقص السيولة على مستوى العالم”.
كما تقهقرت الليرة التركية أمام الدولار بواقع 28 في المئة منذ بداية هذا العام بفعل السياسات النقدية التي تتبعها أنقرة من أجل السيطرة على التضخم.
وأدى ارتفاع أسعار النفط والحبوب التي تعد من أبرز واردات هذه الدول إلى زيادة عجزها التجاري وزيادة التضخم، وهما عاملان يؤثران سلبا على عملاتها. وأدى ارتفاع الدولار إلى زيادة حدة هذه الظاهرة لأن العديد من المواد الخام مسعرة بالعملة الخضراء.
ويقول ثين إن “البلدان التي تعاني من ضعف بنيوي يُحتمل أن تكون أول من ترضخ للاختبار في حالة ارتفاع الدولار بشكل أكبر”.
وإضافة إلى ذلك، عانت باكستان من فيضانات تاريخية في أغسطس دفعت الحكومة إلى مناقشة إعادة هيكلة ديونها.

آدم باتون: النظام المالي يتعرض لضغوط هائلة في الوقت الحالي
ويقول آدم باتون كبير محللي العملات في شركة فوريكس لايف إن “النظام المالي يتعرض لضغوط هائلة في الوقت الحالي وليست سوى مسألة وقت قبل حدوث أزمة كبيرة في أماكن أخرى من العالم”.
وفي تايوان أو تايلاند أو كوريا الجنوبية، وهي كلها تعتمد بشكل كبير على استيراد الطاقة، تسببت سياسة “صفر كوفيد” التي تتبعها الصين في انخفاض صادراتها إلى البلد العملاق، كما أن التباطؤ الاقتصادي العالمي يهدد مبادلاتها التجارية بشكل عام.
أما بالنسبة إلى الصين واليابان، وإن كان حجم اقتصاديهما يجعلهما في وضع أفضل من جاراتهما، فقد ساهم البلدان في الأسابيع الأخيرة في الاضطرابات في سوق الصرف الأجنبي. ومن ثم انخفض الين واليوان مؤخرًا إلى أدنى مستوى لهما منذ 24 و14 عاما تواليا.
ويعيد الخوف من زعزعة الاستقرار ذكريات أزمة عام 1997 الآسيوية التي تسبب فيها انخفاض قيمة البات التايلاندي.
وقد تبعتها حينها ماليزيا والفيليبين وإندونيسيا وهو ما أصاب المستثمرين الأجانب بالذعر وأدى إلى عمليات سحب جماعية، إلى الحد الذي أغرق عدة دول في القارة في الركود وجعل كوريا الجنوبية على شفا التخلف عن السداد.
ويقول إريك نيلسن من شركة ويلز فارغو إن “الاختلاف الملحوظ مع 1997 هو أنه لا يوجد اليوم ارتباط ثابت بعملات أجنبية محددة، على الأقل بين البلدان الناشئة الكبيرة”.
ففي ذلك الوقت، كان انهيار البات مرتبطا جزئيا بتعادله الثابت مع الدولار مما أرغم البلد على دعم عملته على حساب استنفاد احتياطاته من العملات الأجنبية، وهو ما يعني الحكم بالإعدام على أي عملة.
ومن بين البلدان القليلة التي ما زالت تربط عملتها بالعملة الأميركية، أعلن لبنان الخميس الماضي أنه سيخفض قريبا قيمة الليرة إلى 15 ألف ليرة للدولار الواحد، مقابل 1507 ليرات حاليا بالسعر الرسمي.
ويبدو أن الولايات المتحدة وحدها قادرة على خفض جموح عملتها ولكن كريستوفر فيكيو من شركة ديلي أف.إكس يعتقد أنه مع ارتفاع التضخم في الولايات المتحدة، ينظر الاحتياطي الفيدرالي إلى الدولار القوي على أنه نعمة.