قواعد حاكمة للتعامل بين مصر وحماس

لن تتمكن مصر من نبذ حركة حماس التي تسيطر على قطاع غزة. ولن تستطيع الأخيرة الهروب من الحسابات الاستراتيجية للأولى. هذه واحدة من القواعد الحاكمة للتعامل بين الجانبين، أرستها عوامل الجغرافيا السياسية وتداخلاتها الأمنية والاقتصادية، وعززتها الممارسات العسكرية للحركة حيال إسرائيل، فضلا عن تأثيرات القضية الفلسطينية على الأمن القومي المصري.
تفتر العلاقة بين القاهرة وحماس أو تسري في عروقها الحرارة، في الحالتين لا تصل إلى حد القطيعة ولا ترقى إلى مستوى التحالف. كل ما يجري من هبوط أو صعود من وقت إلى آخر يدخل في باب التكتيكات وآليات إدارة العلاقة دون خسائر باهظة.
تبدو هذه المسألة من القواعد المتفق عليها صراحة أو ضمنيا منذ أن أصبحت حماس عنصرا مهما في التوازنات السياسية والعسكرية مع إسرائيل، ورقما رئيسيا في المعادلة الفلسطينية برمتها، ثم تحكمها في قطاع غزة المجاور للحدود المصرية، خاصة عقب تراجع حركة فتح التي ضربها انقسام في هياكلها المختلفة وتزايد الضعف في جسم السلطة الوطنية حتى عجزت عن القبض على زمام الكثير من الأمور.
على الرغم من أن مصر تعرف توجهات الحركة العقائدية وأنها لم تتخل عن علاقتها الوطيدة بجماعة الإخوان المسلمين بعد تعديل ميثاقها، غير أن القاهرة قبلت الحوار معها وتضعها ضمن المصفوفة الرئيسية في القضية الفلسطينية، وغضت الطرف عن الكثير من ممارساتها السلبية في حق الأمن القومي، لأن العداوة أو الخصومة المستمرة معها لهما أضرار أشد جسامة.
تدرك حماس أن مصر تدير معها اللعبة من منطلق مصالحها الوطنية، وكلما ضاعفت قوتها الحركية وراكمت أدواتها العسكرية وباتت طرفا عنيدا لقوات الاحتلال الإسرائيلي زادت أهميتها الحيوية في التوجهات المصرية، ما يمثل كابحا لأي قطيعة بينهما، ورادعا لأي محاولة للتضحية بها، فقد باتت عنصرا مركزيا في الصراع الممتد مع إسرائيل الذي لا تخوضه مصر بصورة مباشرة بعد توقيعها اتفاقية سلام.
قد يعتقد البعض أن قوة حماس العسكرية تمثل خطرا على مصر أو أن ضعف الحركة يعد من قبيل المكسب للقاهرة، وهي مغالطة سياسية، ففي ظل الترهل العام الذي أصاب الحالة الفلسطينية لا يوجد انزعاج من وجود قوة مثل حماس تقوم بدور رأس الحربة ضد إسرائيل التي لا يعني تطبيع العلاقات معها أن الصراع التاريخي قد طويت صفحاته القاتمة.
تأتي مشكلة مصر مع حماس من احتمال شرودها العسكري وعدم انضباطها السياسي وتعدد ولاءاتها بين قطر وتركيا وإيران، وهي من العوامل التي يمكن أن تتصادم مع المصالح المصرية في بعض الأوقات، لكن الخبرة التي اكتسبتها الحركة جعلتها لا تميل إلى هؤلاء كل الميل، ولا تبسط يدها تماما للقاهرة، ومهما اقتربت من الدول الثلاث لن تسمح بأن تجور على علاقتها بمصر في الأجواء التي تخيم عليها الخصومة.
تعلم حماس أن مصر هي الرئة التي يتنفس منها قطاع غزة ومن الطبيعي أن تحافظ على علاقة جدية معها، حيث سيصيبها الاختناق إذا حرمت هذه الرئة من التنفس، أو بكلام آخر من الحركة عبر معبر رفح الذي أضحى شريانا وحيدا يربط غزة بالعالم الخارجي في ظل غلق إسرائيل لجميع المعابر التي تربطه بالضفة الغربية.
تحول الفصل بين غزة والضفة إلى أزمة عميقة لمصر التي وجدت على مرمى بصر من حدودها ما يشبه دويلة إسلامية تلقى دعما من بعض الجهات وتشجيعا من أخرى، ولن يؤدي الدخول في مواجهة معها إلى تحقيق المصالح المصرية خشية أن تتحول إلى بؤرة تتجمع فيها قوى متطرفة من أنحاء العالم.
نجحت القاهرة في عقد تفاهمات لمنع تمركز المتشددين في القطاع واستغلاله ضدها، حيث عانت منطقة سيناء وقت أن استقبلت المئات منهم في سنوات ماضية بصورة ضاعفت من قوة العناصر الإرهابية التي اتخذت من غزة قاعدة خلفية لها عندما كانت عملية السيطرة على الحدود مع القطاع غاية في الصعوبة.
ووقتها تحولت مئات الأنفاق التي جرى حفرها من مصدر لتوريد الغذاء من مصر إلى القطاع إلى مصدر لتهريب المتطرفين والسلاح إلى سيناء، وهي الخطوة التي فرضت على القاهرة تغيير آليات تعاملها مع غزة، أمنيا واقتصاديا.
تمكنت القوات المصرية في خضم حربها ضد الإرهاب من السيطرة على المرور بين سيناء وغزة، فوق الأرض وتحتها، الأمر الذي فرض على حماس قيودا أكبر لضبط سلوكها الأمني والرضوخ لجزء كبير من التصورات التي تحددها القاهرة حيال اللعبة الإقليمية وحدود تصعيد المواجهات مع إسرائيل وعدم التمادي في الخروج عنها.
وفر تحكم مصر في الكثير من القواعد فرصة لكبح جماح حماس عندما تريد زيادة وتيرة الضغوط العسكرية على إسرائيل إلى المدى الذي يقود إلى الانفلات، وهو ما كشفه نجاح القاهرة في نزع فتيل الحرب الأخيرة في مايو الماضي وتمكنها من التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار وقبول حماس به بلا ممانعة كبيرة.
حافظت العلاقة بين مصر والحركة خلال العقدين الأخيرين على شعرة معاوية، إذا شدتها الأولى أرختها الثانية، والعكس، بما يشي أن الشعرة أو اللعبة تتحكم فيهما معايير تم التفاهم عليها بشكل يحافظ على درجة معقولة من دفء لا يسمح بانهيارها.
تعتقد حماس أن اقترابها من القاهرة يضمن لها سندا إقليميا له ثوابت وأسس نحو القضية الفلسطينية ولا يحيد عنها، ويوفر لها غطاء سياسيا يخفف من وطأة انحيازها إلى قوى عقائدية، فمجرد أن تحتفظ الحركة بمسافة قريبة من مصر ربما يكفي لفتح قنوات تواصل مع قوى إقليمية ودولية عديدة تثق في منهج الاعتدال المصري الذي يريد أن يضع حماس تحت عينيه منعا لهروبها إلى جهة تتمكن من توظيفها لأبعد مدى.
تكاد تكون العلاقة مركبة أمنيا وملغمة سياسيا، وهما صفتان أمكن توظيفهما بطريقة إيجابية من قبل حماس، وجعلتا القاهرة تغفر لها الكثير من خطاياها وتجاوزاتها، مع أن قواعد اللعبة لا تقبل المغامرة من الحركة، فعند مستوى معين يهبط سقف الخلاف.
يكمن قلق حماس في شعورها بانحياز مصر إلى حركة فتح والسلطة الفلسطينية ومناصرتها عملية التسوية، وهي محددات فرضت عليها اللجوء إلى المناورة لتقويض الضغوط السياسية الواقعة عليها، وكانت تظهر ملامحها من حين إلى آخر في حوارات الفصائل الفلسطينية المختلفة بالقاهرة، لكن تظل حريصة على عدم قطع شعرة معاوية.