قمة جدة تقدم السعودية جسرا دبلوماسيا لحلحلة الأزمات

السعودية خطفت الأضواء بجمع النقيضين الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي والسوري بشار الأسد. رسالة مزدوجة في جانب تظهر الحياد بين روسيا والولايات المتحدة، وفي جانب ثان تظهر مرونة دبلوماسيتها وقدرتها على أن تتحول إلى وسيط محتمل لحل الأزمات.
جدة - خلال قمّة جامعة الدول العربية الجمعة في جدّة جمعت السعودية الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي ونظيره السوري بشار الأسد، حليف موسكو، في القاعة نفسها، في إشارة قوية إلى الطموحات الدبلوماسية العالمية للمملكة. ويحظى الأوّل باحترام كبير لدى الدول الغربية لوقوفه في وجه الغزو الروسي لبلاده. أما الثاني فلطالما تعرّض لانتقادات لاذعة بسبب الفظائع المرتكبة بحق شعبه في نزاع جعله يعتمد على موسكو.
ويرى محللون أن وجود الرجلين بشكل غير متوقع في المدينة المطلّة على البحر الأحمر، بدا وكأنّه يهدف إلى إبراز نفوذ ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الذي كان قبل أقلّ من خمس سنوات معزولًا دوليًا على خلفية قتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول.
ويقول الباحث في معهد بيكر بجامعة رايس كريستيان أولريتشسن “يتمثل الهدف الرئيسي للقيادة السعودية في تصوير ولي العهد على أنه شخصية أساسية في المشهد الجيوسياسي المتغيّر“. ويضيف أن الحرب في أوكرانيا “أنهت بالتأكيد” عزلة ولي العهد المرتبطة بقضية خاشقجي، والسعوديون يسعون حاليًا “لإثبات أنهم قادرون على سدّ فجوات، لا يحلم آخرون” بجسرها.
ورغم أن قمّة جدّة لم تفضِ إلى أيّ قرارات مهمة، إلا أنّ بإمكان السعودية التباهي بأنها تمكّنت من استضافة اجتماع جرى بشكل سلس وتمّ خلاله إخفاء التوتر الناجم عن وجود الأسد وزيلينسكي في آنٍ، على الأقلّ ليوم واحد.
◙ السعودية بإمكانها التباهي بأنها تمكّنت من استضافة اجتماع جرى بشكل سلس وتمّ خلاله إخفاء التوتر الناجم عن وجود الأسد وزيلينسكي
وارتقت السعودية إلى صدارة المشهد الدبلوماسي في العالم العربي العام الماضي من خلال استعادة العلاقات مع إيران وترحيبها بعودة سوريا إلى الصف العربي وتوسطها في الصراع السوداني. وذات يوم كانت الولايات المتحدة تملك نفوذا قويا لدى المملكة الغنية بالنفط.
وجاءت زيارة الأسد إلى السعودية بعد سلسلة أحداث تمهيديّة: ففي الأسابيع الأخيرة تبادل وزيرا الخارجية السعودي والسوري الزيارات وأعلنا عزمهما على إعادة فتح البعثات الدبلوماسية المغلقة منذ عام 2012، حين قطعت الرياض علاقاتها بسوريا على خلفية النزاع.
ويعود الاحتضان الإقليمي الأوسع إلى العام 2018، عندما استأنفت الإمارات علاقاتها بدمشق وقادت الحملة لإعادة الأسد إلى محيطه العربي. ورغم ذلك، بقيت هناك مخاوف بشأن مدى قبول حضور الأسد الجمعة، نظرًا إلى وجود تحفّظات من جانب بعض القادة العرب بشأن عودته إلى الحاضنة العربية.
ويقول الخبير في شؤون الشرق الأوسط حسين إبيش إن “الأمر كله يتعلق ببشار الأسد“. ويضيف “إذا كان متعاونًا ولم يلُمهم (العرب)، فإن إعادة قبول نظامه المنتصر، وهو أمر حتميّ مهما كان مقيتًا، سيستمرّ ‘بشكل طبيعي‘،“.
وفي نهاية المطاف، أشاد الأسد بالأمير محمد بن سلمان، الحاكم الفعلي للمملكة التي سبق أن وصفته بأنه “آلة قتل“. وفي وقت أكد على أهمية أن ترتّب كل دولة شؤونها دون “تدخّل أجنبي”، لم يثر الأسد غضب قادة جامعة الدول العربية التي سمحت للمعارضة السورية خلال قمّتها في الدوحة عام 2013، بتولي المقعد الرسمي لبلاده.
وتأمل دول عربية عديدة في أن يتخذ الأسد خطوات لإبعاد سوريا عن إيران الشيعية، بينما قال الأسد في كلمته “أما سوريا فماضيها وحاضرها ومستقبلها هو العروبة” دون أن يذكر طهران الحليف الوثيق لسوريا لعقود.
وأفادت وسائل الإعلام السورية الرسمية أن الأسد صافح وتحدث مع أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، المعارض الشرس للأسد والذي دعت حكومته إلى محاسبة دمشق على “جرائم حرب” ارتُكبت بحق الشعب السوري.
غير أنّ كل هذه الخطوات لا تعني أن الأزمة السورية قد حلّت، خصوصًا إذا لم تعالج إعادة دمج الأسد القضايا المتعلقة باللاجئين السوريين وتجارة الكبتاغون. وتعتبر الخبيرة بمركز الأهرام للدراسات السياسية في القاهرة رابحة سيف علام أن “الترحيب العربي بسوريا احتفالي أكثر من أن يُبنى عليه شيء ملموس".
وتضيف أن "الإجراءات والخطوات القادمة مع سوريا لها حسابات أخرى لأن مطالب الدول العربية لا تتعلق بالديمقراطية أو الحوكمة بل تتعلق بالأمن الإقليمي والمخدرات والإرهاب وعودة اللاجئين".
وترى الباحثة في معهد دول الخليج العربية بواشنطن كريستين ديوان أن "إعادة الأسد إلى الحاضنة العربية أحدثت خلافات، أبرزها مع قطر". وتضيف "لكن السعودية ستستمتع بأخذ زمام الأمور وفرض إجماع عربي".
◙ وجود الأسد وزيلينسكي بشكل غير متوقع في جدة بدا وكأنه يهدف إلى إبراز نفوذ ولي العهد السعودي إقليميا ودوليا
وكان زيلينسكي في قمّة جدّة أكثر مواجهةً، إذ اتّهم بعض القادة العرب بـ"غضّ الطرف" عن المعاناة التي تشهدها بلاده على أيدي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وتقول رابحة سيف علام إن "حضور زيلينسكي أفسد على الأسد فرحته بالقمة لأنه ذكّر الحاضرين بجرائم روسيا في أوكرانيا".
وفي مؤتمر صحفي في ختام القمّة، قال وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان إن قرار الرياض دعوة زيلينسكي يعكس "الانفتاح على سماع جميع الأطراف وجميع الأصوات.. فدون أن نسمع وجهات النظر (كافة) لن نستطيع أن نكون مساهمين فاعلين في إيجاد حل".
غير أنّ السوريين على الأقلّ كانوا غير مهتمّين إطلاقًا بسماع خطاب زيلينسكي. فقد صمّ الوفد السوري آذانه عن كلمة الرئيس الأوكراني، ممتنعًا عن وضع سماعات الترجمة، وفق صحيفة الوطن السورية، المقربة من الحكومة.
لكن هذا النوع من ردود الفعل لا يعني على الأرجح الكثير بالنسبة إلى السعوديين الذين قد يكونون مهتمّين أكثر بتغيير الانطباع بأنهم قريبون جدًا من روسيا الذي يشكل مصدر قلق بالنسبة إلى واشنطن. وتعتبر ديوان أن "دعوة زيلينكسي تتعارض مع هذا الانطباع وكذلك تنبّه روسيا إلى أن إعادة دمج الأسد لا يمنحها مطلق الحرية في المنطقة".
ويقول الخبير في السياسات السعودية بجامعة برمنغهام عمر كريم إن ذلك يتوافق مع الصورة التي تقدّمها الرياض عن نفسها على أنها "جسر دبلوماسي وربما اقتصادي بين اللاعبين الدوليين المختلفين". ويرى أن "دعوة زيلينسكي تُظهر أن الرياض لا تريد أن تكون لاعبًا إقليميًا فحسب بل لاعبًا دوليًا وأن تخلق لنفسها مكانة دبلوماسية خاصة في نظام عالميّ متغيّر متعدد الأقطاب".