قصيدة النثر لسان الشاعرات الإماراتيات

يتمتع المشهد الشعري الإماراتي بثراء تجاربه وتنوعها ما بين العمودية الكلاسيكية والتفعيلة وقصيدة النثر. وتتجلّى تجربة المرأة الإماراتية بشكل واضح، سواء على مستوى أسمائها أو حضورها وتفاعلها العربي أو تطورها وتماسها المباشر، مع التجربة الشعرية العربية عامة وتجربة قصيدة النثر خاصة، كما نتبيّن ذلك في كتاب “الصورة الشعرية عند شاعرات الحداثة في الإمارات”.
تقرأ الناقدة السورية خولة حسن الحديد في كتابها الجديد بعنوان “الصورة الشعرية عند شاعرات الحداثة في الإمارات” تجارب لشاعرات الحداثة في الإمارات، متقصّية بالتحليل جماليات الصورة الشعرية عندهن كمصدر وأسلوب وتجلٍّ من تجليات الحياة.
وتؤكد الحديد في مقدمتها لكتابها أن الدراسات النقدية الخاصة بأدب الخليج عامة والمرأة خاصة، مازالت قليلة نسبيّا، وتقول “نال التقصير من شاعرات الإمارات أكثر من غيرهن، وتميزت الإمارات العربية المتحدة بتعدد الأقلام النسائية الشعرية، والتي اختارت قصيدة النثر كشكل أساسي لنتاجها، وإلى جانب شاعرات الأشكال الشعرية الأخرى، فإن العدد قد يفوق الدول العربية ذات التاريخ الإبداعي الطويل، سوريا، العراق، مصر.. وغيرها”.

عائشة البوسميط تتخذ من قصيدة النثر شكلا لإبداعها
وقد برز نتاج هؤلاء الشاعرات في الصحف والدوريات العربية والمحلية، وفي إصدار اتحاد كتاب وأدباء الإمارات “قصائد من الإمارات” (1986). وتذكر الناقدة الشاعرات: رؤى سالم، سارة حارب، ابتسام سهيل، أمينة عبدالعزيز، حصة عبدالله، ظبية خميس، فرح يوسف مختار، ليلى أحمد، منى سيف، ميسون صقر القاسمي، نجوم الغانم وهالة حميد معتوق. وفي الفترات اللاحقة ظهرت أسماء أخرى، أصدرت ونشرت نتاجها مثل صالحة غابش التي تدرّجت تجربتها من الوزن الخليلي إلى التفعيلة وصولا إلى قصيدة النثر، وعائشة البوسميط، وخلود المعلا، والهنوف محمد وغيرهن.
علاقات متشابكة
في هذا الكتاب، الصادر عن دار العوام بدمشق، تقدّم الحديد دراسة لثلاث من شاعرات الحداثة في الإمارات، وهن ميسون صقر القاسمي، نجوم الغانم، عائشة البوسميط، اللواتي اتخذن قصيدة النثر شكلا لإبداعهن الشعري، وينتمين إلى تيار الحداثة في الإبداع الأدبي. وتتقصّى الناقدة جماليات الصور الشعرية لديهن وتكشف عن مصادرها ومنابعها ووظائفها، عبر دراسة تحليل المضمون لنماذج من إبداعهن.
وتلفت الحديد في تحليلاتها لأعمال ميسون صقر القاسمي إلى أن الصورة الشعرية لعبت دورا متميّزا وأساسيا في نصوصها بدءا من عملها الأول “هكذا أسمّي الأشياء” وحتى آخر إصدار شعري لها “جمالي في الصور”.
وتعرّج الناقدة السورية على غزارة إنتاج الشاعرة وتميز نصوصها بتنوع مصادرها وأدواتها ورموزها، والتي جاءت في غالبيتها عبارة عن فيض من الصور الجديدة المبتكرة أو تلك الغريبة، والتي تطبعها بطابع الجدة والأصالة، لتنوع مضامينها وعناصرها ورموزها.
واستطاعت قصيدة الشاعرة نسف جميع الحواجز التي تفصل بين الوعي والعقل الباطن، وبين الحقيقة والخيال، والمنطق والهوس، والزمان والمكان، الموضوع والذات، في تداعٍ حرّ لأفكار وعناصر تتدفق من ينابيع مختلفة تحفر فيها التجربة الإنسانية بقوة في علاقتها بالآخر وعالم الطبيعة والأشياء، لترسم صورة كونية أشبه بالموقف الصوفي الذي يجد جذوره في الروح الأسطورية، التي تجعل من الموضوع ذاتا ومن الذات موضوعا.

الصورة الشعرية لعبت دورا متميّزا وأساسيا في نصوص ميسون صقر القاسمي
وتضيف الحديد “لعل أول ما نلمسه إذا ما رافقنا ميسون القاسمي في رحلتها الكتابية، هو ذلك الثراء الاستعاري الذي ينبثق من عدة مستويات، بدءا من التشابهات والتماثلات حتى التناقضات الأكثر بعدا وغرابة، والتي تقوم على المزج بين المجرد والملموس حينا، وإضفاء صفات إنسانية على الأشياء أو العكس، وتنوع الإدراكات الحسّية التي قد تستدعي الإقرار بوجود حاسة سادسة وسابعة”.
وتبيّن الناقدة كيفية انتقال الشاعرة في نصوصها من المجرد إلى الملموس ومن الحسّي إلى الذهني، ومن الفوضوية إلى التنظيم، ليأخذ نصها شكل العلاقات الاقترانية التحولية، فليس الحسّي ما ينقلنا للذهني دائما ولا المجرد إلى الملموس، أو الخيالي إلى الواقعي، فكثيرا ما تتم التحولات بين مستوى وآخر إن كان ذلك على صعيد النص الواحد، أو في الصور المنتشرة في نصوص الشاعرة، والتي طبعت أعمالها بسمات مميزة كان أبرزها هو ذلك المزج بين الجسد الإنساني “إن كان جسد الشاعرة أو الجسد عموما”، وبين عالم الأشياء والطبيعة، فعلى امتداد النصوص منذ العمل الأول وحتى الإصدار الأخير نجد هذه الصورة التي تستند إلى هذا المزج.
وترى الحديد أنه كان للإدراكات الحسية دور أساسي في صور الشاعرة، حيث شكلت عن طريق التداخل بين الحواس علاقات جديدة، أنتجت من خلالها صورا تركيبية مكثفة، وامتزجت ملامح الصور بعضها ببعض لتغرق دلالات بعض النصوص في علاقات متشابكة، ابتعدت فيها عن المعنى المعجمي للكلمة لتعطيها دلالات تعبيرية وجمالية جديدة، من خلال ما تستدعيه في الذهن من عناصر مادية تنقل المتلقي إلى المستوى التشخيصي ـ التجريدي.
وتقرّ الحديد بأنه من خلال نصوص القاسمي لم يعد بالإمكان الحديث عن كائنات مادية محسوسة، خارجية، بقدر ما نحتاج إلى فهم العلاقة بين التركيب الذهني والمادي لآلية الإبداع الإنساني وفقا لمعادلة “الداخل ـ الخارج”، وتنقلنا السلاسل المستمرة المتتابعة للإدراكات المختلفة عن الشاعرة في عمقها وأصالتها إلى ثراء إدراكي، يدفع للإيمان بأهم سمات الإدراك الإنساني، على اعتبار أنه متصل الحلقات يربط بين الماضي والحاضر، والخارج والداخل بامتداد نحو المستقبل في لحظة مركزية واحدة، تجلت هذه السمات عند الشاعرة في استعارات متعددة وأدوات بلاغية مختلفة، إلا أن الإدراك الاستعاري لديها كان أغنى وأعمق كونه ارتبط بالكل، وربط اللحظة بالديمومة، مما يوسّع أفق الحياة الفردية ويشبع الانفعال الجمالي الذي يؤكده الإدراك الاستعاري.
عالم أسطوري

الصورة الشعرية عند نجوم الغانم تتميز بانتمائها إلى عالم الأسطورة والخيال
في تحليلاتها لأعمال الشاعرة نجوم الغانم تقول الحديد إنه بدءا من النصوص الأولى ومجموعة “مساء الجنة” وانتهاء بالعمل الأخير “ملائكة الأشواق البعيدة”، تميّزت الصورة الشعرية عند الغانم بانتمائها إلى عالم الأسطورة والخيال، والمفردات السحرية المبهمة، والتي تمنح النصوص الأجواء الكلاسيكية الغامضة، ذلك الغموض الكلاسيكي الذي لفت نصوصها لفظا ودلالة، يعدّ الثيمة الأساسية لتجربتها، وإن خرجت في بعض أعمالها الأخيرة عن هذه الثيمة بمقدار ما، فإنها بقيت ضمن الدائرة نفسها.
وتشير إلى أنه إذا تتبعنا جماليات الصور عندها، فسنجد أن الشاعرة سخّرت كل التقنيات البلاغية واللغوية، من استعارات وتشبيهات ومجازات، لعالمها الأسطوري الخيالي، فجاءت مفرداتها مغرقة في القدم، تغوص في الموروث الإنساني، الأسطوري، العربي والعالمي، لتعيد خلقه وتكوينه بتقنيات حداثية، استطاعت من خلالها إنقاذ النص من السقوط في وطأة الميتافيزيقا.
استخدام الشاعرة للأساطير والرموز التاريخية الإنسانية عامة، والفنية منها لم يأت استنساخا للماضي ومحاولة تكراره، وإنما كان بمنزلة إنعاش الذاكرة التراثية المرتبطة بالتراث الإنساني ككل، مما أعطى النصوص خصوصية متميزة من ناحية حوارها الغني مع الماضي، والتفاعل الخلاق مع قيمته التاريخية، هذا الحوار الذي بدأ كسمة جمالية ينحو باتجاهها جيل الحداثة الشعرية في الوطن، فوقع بعضهم في السلفية حينا، وجاءت بعض النصوص متخلخلة البناء والشكل لعدم قدرتها إلى إقامة التوازن ما بين الإفراط والتفريط حينا آخر.
وتشير الحديد إلى أن الصورة الشعرية عند الغانم تعددت مصادرها ومستوياتها الرمزية، الإيحائية وإن صبغها الغموض، فإنها لعبت دورا أساسيا في تحقيق الوظيفة الجمالية لنصوصها، وقد استخدمت الشاعرة الأنماط المختلفة للاستعارة، وتراوحت هذه الأنماط ما بين الاستعارات المألوفة والاستعارات البعيدة، التي جاءت مفرداتها من التراث حينا والبيئة حينا آخر.
وشكلت العديد من الصور القائمة بذاتها استنادا إلى الاستعارات فقط، وبعض الصور التركيبية التي كانت الاستعارة طرفا فيها، وأضفت صفات إنسانية على المجردات، ويكثر لديها هذا النمط من الصور، وخاصة في “مساء الجنة” و”الجرائر”، وتضفي أحيانا صفات حسّية على المجردات والعكس، وكثرت أنماط هذه الصور في “الرواحل”، ما بين هذه الأنماط جميعها تنتقل الشاعرة في نصوصها إلى رموز معينة وطقوس خاصة، منحت النصوص هالة من القداسة والغموض.
تنوع الأساليب

الناقدة خولة حسن الحديد تتناول في كتابها جماليات الصورة الشعرية لدى ميسون صقر القاسمي ونجوم الغانم وعائشة البوسميط
تلفت الحديد إلى أن الصورة الشعرية لدى عائشة البوسميط التي تتخذ من قصيدة النثر شكلا لإبداعها، تأخذ عندها طابعا مميزا يقف على مسافة بعيدة من الصور لدى ميسون القاسمي ونجوم الغانم، وتقول “بالرغم من محاولة البوسميط الاستفادة من التقنيات الحداثية في إنتاج الصورة، فإنها بقيت في دائرة الوضوح والشفافية عالية المستوى، من حيث مفرداتها وألفاظها ومعانيها ودلالاتها، وحتى موضوعاتها التي امتدت من الوطن الصغير إلى الوطن الكبير، ومن الذات إلى علاقتها بالآخر، بقيت في إطار رمزية شفيفة، تحضر فيها عناصر الطبيعة، ورموز البيئة التي تتخللها المفردات الشعبية السائدة.
وتستحضر الشاعرة أحيانا مفردات تراثية مرجعيتها الذاكرة، وتطبعها بطابعها الرومانسي المحتفى بالطبيعة والكون، وتتمازج لديها الرومانسية بالواقعية عندما تستخدم مفردات الحياة الأنثوية الخاصة بالطفولة، والحبيب، والأحلام، وحتى في قصيدتها حول “أطفال الحجارة وقضية فلسطين” تتوحد مع الطبيعة، وتمزج الحلم بالواقع بصياغات نثرية مباشرة في غالب الأحيان تنزع فيها نحو العبارات الخطابية والتقريرية، وباستحضارها للأهازيج الشعبية، الطفولية، ورموز البيئة المحلية تقترب من أجواء الرومانسية الشعرية العربية التي سادت في الخمسينات.
وأظهرت نتائج دراسة الحديد تعدد الأصوات الشعرية، وتنوع الأساليب الأدبية لدى الشاعرات، نظرا إلى ما تمتعت به كل شاعرة من خصوصية تميز تجربتها – على الأقل على صعيد الصورة الشعرية – وإن كانت هناك بنية مشتركة أحيانا للصور المختلفة، فإن ذلك لا ينفي التفرد، والذي يبدو واضحا في ما توصلت إليه الدراسة.
وضمن هذا التفرد يُمكن التأكيد على سمات مشتركة بين الشاعرات، وقد فصّل فيها الكتاب من خلال عدة محاور أساسية منها: الموروث الخاص والإنساني العام، الذات الشاعرة، وفي الوظيفة الجمالية والتعبيرية للصورة الشعرية، مع الأخذ في الاعتبار أن مجرد المقارنة قد يدفع باتجاه مغبة التعميمات، فالسمات المشتركة العامة لا تُسقط الخصوصية التي ميّزت كل تجربة.
نصوص تحفر في التجربة الإنسانية بقوة في علاقتها بالآخر وعالم الطبيعة والأشياء، لترسم صورة كونية متكاملة الأركان
وكثيرا ما تنشأ الصورة حين يتسع الشعور بالحياة ليضم كافة الموجودات، ومع استثمار الشاعرة للمستويات الإدراكية جميعها، حضر الصوت واللمس والرائحة والبصر بتداخلات مختلفة، وأخذ اللون دورا مركزيا في الكثير من الصور المنتشرة في النصوص، فحضرت ألوان لم نعرفها، وتلوّنت الأشياء بغير ألوانها، وتلون ما لا يلوّن، ونجد أمثلة على النقاط المشار إليها في أعمال الشاعرة كلها، لأنها من السمات البارزة في صورها الشعرية.
وربطت نتائج الدراسة بين تطور الصورة الشعرية في الخطاب النقدي العربي المعاصر، وما كتبه النقّاد فيها، ونتائج تحليل مضمون نصوص الشاعرات المذكورات، لتخرج بالتأكيد على ضرورة النهج التكاملي في تفسير المُعطى الجمالي، والتأسيس لقيم جمالية مُعاصرة تنسجم مع روح العصر، والتي باتت الصورة تُمثل أبهى تجلياتها، وتقترب من الحياة اليومية للإنسان وتسمو بذائقته الجمالية.