قرية "التقطيع والترييش"

نحتاج جميعا إلى التنفيس عن أنفسنا من وقت إلى آخر عبر الحديث عن مشاكل العمل ومشاغل الحياة الشخصية أو أصدقاء أو زملاء تزعجنا تصرفاتهم، وهذه طبيعة فطرية لدى البشر، تعزز إحساسنا بـ”المرونة النفسية”، والقدرة على التكيف مع الظروف القاسية والأشخاص صعاب المراس.
لا تفوتنا هنا الإشارة إلى أننا أحفاد أسلافنا. والجوانب المشتركة بيننا وبينهم -مهما اختلفت أعراقنا وأجناسنا وأزمنتنا- هي ذلك الانسياق التلقائي للقيل والقال، وإفساح المجال للأحاديث الجانبية لتنسجم مع أفكارنا وتوقعاتنا وتجاربنا، إنها جزء لا يتجزأ من تطورنا ضمن مكونات اجتماعية كبيرة.
ربما يكون القيل والقال هو العنصر المحوري الفعال، الذي أتاح لنا فهم أنفسنا والآخرين من حولنا، ومجالس المسامرة كانت مهمة في حياة البشر منذ آلاف السنين، لكن في العصر الحديث استعاض البشر عن التحليق حول النار لسماع الحكايات بمجالس “النميمة الافتراضية”، وفتحت التطبيقات ومحركات البحث وشبكات التواصل الاجتماعي نوافذ شاسعة للثرثرة و”التقطيع والترييش” (النميمة) على حد تعبير التونسيين، ولم يعد الأمر مجرد هواية للجدات وربات البيوت التقليديات، يكسّرن بها رتابة الملل والجلوس المطول أمام المنازل في انتظار عودة الرجال من العمل.
من الممكن أن نتفهم أسباب انسياق أناس نحو النميمة تجاه أشخاص أساءوا إليهم بالفعل على أرض الواقع، لكن الأمر يختلف بالنسبة إلى “النميمة الإلكترونية” التي تترافق -للأسف- مع الشعور بالحقد والكراهية والبغضاء تجاه الغرباء، الذين لا تربطنا بهم أية صلة، إنه إحساس تغذيه الرغبة الجارفة في التميز عنهم، أو ربما “التمركز حول الأنا”، والإحساس الكبير بالاستعلاء. ويؤدي ذلك بسهولة إلى أن يتحول البعض إلى جحافل من الكارهين والحاقدين والناقمين والمتنمرين، وكل همهم إزعاج غيرهم والنيل منهم عبر حياكة الأكاذيب ونشرها على حساباتهم الشخصية أو عبر إنشاء سلسلة من الحسابات الوهمية للغرض نفسه.
وبما أن العالم تحول إلى قرية إلكترونية، اختلط فيها الحابل بالنابل والقاصي بالداني، ليس من المستبعد أن تخلف “النميمة الافتراضية” عواقب وخيمة على الحياة الشخصية والمهنية للملايين من الأشخاص، وتسهم في تسميم أجواء العمل والأسر والمجتمعات، بدل أن تستخدم وسائل التكنولوجيا في تعزيز الممارسة السياسية والديمقراطية الحقيقية، ومحاربة الفساد والتعصب والكذب.
من الظواهر غير المفاجئة أن ترتبط النميمة بالشعبية. فعندما تنخرط الشخصيات المؤثرة ونجوم مواقع التواصل في وصلات من الشتم والسب يغذيها الحسد والغيرة والحقد على من هم أفضل منهم، تزيد موجات العنف الإلكتروني وخطابات الكراهية والمعلومات المضللة والاحتيال. كما أن المراهقين يقلدون أصدقاءهم، ويعملون على تعديل طريقة تدويناتهم وتعليقاتهم، والأسلوب اللغوي الذي يستخدمونه في الدردشات، حتى وإن كان هناك اختلاف كبير بينهم على صعيد السلوكيات والتنشئة الاجتماعية.
ويشي ذلك بأن مجالس النميمة تنتشر عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي، بفعل الضغط الاجتماعي وديناميكية وثقافة الحشود، رغم غياب التواصل الحسي بين المشتركين في هذه المواقع، ويعرف ذلك بنظرية “العدوى الاجتماعية”.
إذا ألقينا نظرة فاحصة على تعليقات وتدوينات المشتركين في مواقع التواصل، بدءًا من الأشخاص العاديين ومرورا بحسابات المدونين والشخصيات المشهورة ووصولا إلى السياسيين، فإننا سندرك أن معظمهم منهمكون في مباراة للتلاسن، وعندما تسألهم عن السبب يلوذون بالمراوغة والتبريرات الفارغة، أو محاولة الظهور بمظهر المظلومين أو المصلحين أو الممارسين لحقهم في حرية التعبير، حتى يتركوا انطباعا إيجابيا عنهم.
وهو بالضبط ما توصل إليه الباحثون عند تسليطهم الضوء على نسبة المنشورات المسيئة والتغريدات التحريضية التي صنفت على أنها غير لائقة (flagged posts) ومسيئة للآخرين.
عندما يتعلق الأمر بتدويناتي أو تعليقاتي الشخصية على مواقع التواصل فذاك شيء ليس من السهل أن أتحدث عنه، لكنني قد أكون في خانة المذنبين إذا افتخرت بأنني لم أسئ لأحد على الإطلاق.