"قدحة.. حياة ثانية" فيلم تونسي يقدم لنا العالم كما يراه الأطفال

مآسي الهجرة غير الشرعية تتعدى الفرد لتؤثر في المجموعة.
السبت 2022/11/12
طفل ضحية عائلته

يأتي الأبناء أحيانا ليكونوا ضحية للآباء المستهترين، وتكون حياتهم أشبه بقصة سينمائية أو هي بالفعل فكرة تصلح لأن يبنى عليها فيلم سينمائي، كما هو حال فيلم “قدحة.. حياة ثانية” الذي يصور لنا معاناة طفل ولد لأب لا مبال وأم عاجزة ماديا.

ياسر سلطان

"أولادكم أبناء الحياة المشتاقة إلى نفسها"، بهذه العبارة المقتبسة من كتاب ‘النبي’ للكاتب اللبناني جبران خليل جبران يُختتم فيلم “قدحة.. حياة ثانية” للمخرج التونسي أنيس الأسود، تاركا علامة استفهام كبيرة حول مصير أبطاله.

يستعرض الفيلم حياة أسرة فقيرة سافر عائلها إلى أوروبا في رحلة هجرة غير شرعية انقطعت أخباره على إثرها. يبدأ الفيلم بتعرض الطفل نبيل وشهرته “قدحة” إلى حادث سير ينقل على إثره إلى المستشفى، ولا تجد والدته وسيلة لعلاجه سوى الاستسلام لعطف إحدى الأسر الغنية. في المقابل تسمح الأم بالتبرع بإحدى كليتي ابنها قدحة لطفلهم أسامة، الذي يعاني بدوره من الفشل الكلوي.

تنتقل والدة قدحة مع ابنها وابنتها الصغيرة للعيش في كنف هذه الأسرة ميسورة الحال، فتنشأ علاقة صداقة بين قدحة والطفل أسامة دون أن يعلم سر هذا التحول في حياته.

الفيلم حاز على جائزة منصة الشارقة للأفلام في دورتها الخامسة التي نُظمت أخيرا، وهو فوز كان متوقعا ومستحقا
الفيلم حاز على جائزة منصة الشارقة للأفلام في دورتها الخامسة التي نُظمت أخيرا، وهو فوز كان متوقعا ومستحقا

تتوغل مشاهد الفيلم عبر التفاصيل الشائكة لتكوين الصبي الصغير: من حياة الشارع إلى علاقته بأمه وشقيقته، لتكشف لنا عن أسباب اضطرابه؛ هذا الاضطراب الذي يتجسد أخيرا في ثورة غضب غير مأمونة العواقب. يتتبع المخرج هذه التفاصيل عبر المشاهد القريبة والحوار الدائر بين الأم وابنها، بما يحمله هذا الحوار من غضب مكتوم. هذا الغضب الذي يتملك الأم وطفلها يبدو في ظاهره موجها إلى الزوج الغائب، غير أن أبعاده الاجتماعية والسياسية العامة ليست بمنأى عن بواعثه.

في الفيلم يجد الطفل الصغير قدحة نفسه مشتتا بين طبقتين اجتماعيتين مختلفتين، بينما يستمر ظل الأب الغائب مخيما على علاقته بأمه. يزداد الأمر تعقيدا حين يكتشف قدحة ما حدث له، وأن الضعف الذي ينتاب جسده هو نتيجه تخلي والدته عن إحدى كليتيه لطفل آخر. جسّد الأدوار الرئيسية للفيلم مجموعة من الممثلين التونسيين المخضرمين والشباب، من بينهم جمال العروي وأنيسة لطفي وشامة بن شعبان ودرصاف الورتاني وأنس العبيدي.

وحاز فيلم قدحة على جائزة منصة الشارقة للأفلام في دورتها الخامسة التي نُظمت أخيرا، وهو فوز كان متوقعا ومستحقا، فبين الأفلام التي شاركت في هذه الدورة استطاع هذا العمل أن يلفت إليه الانتباه بخصوصية طرحه، إذ يتعرض العمل لواحدة من أبرز القضايا الإشكالية المطروحة الآن على الساحة الدولية، وهي قضية الهجرة غير الشرعية، لكن الفيلم لا يتناول هذه القضية من منظور مباشر كما هو الحال في معظم الأعمال التي تصدت لمثل هذه القضايا، بل يذهب بعيدا من أجل تلمس دوافعها وتبعاتها الاجتماعية. في الفيلم تبرز ظاهرة الهجرة كفعل محوري لتصاعد الأحداث، غير أن حضور هذا الفعل يبدو هامشيا في سياق التطور الدرامي للعمل.

لسنا هنا بصدد إبراز معاناة المهاجرين أو مآسيهم الشخصية في خوض هذه المخاطرة الصعبة، وهو جانب على قدر صعوبته وما يحمله من أبعاد إنسانية يبدو يسير التناول. نزعم هنا أن المخرج التونسي  الأسود قد اختار الجانب الصعب من هذه التجربة الإنسانية بتسليطه الضوء على العالقين على الجانب الآخر في انتظار الغائب، هؤلاء المترقبون لنجاته أو الفَزِعون لهلاكه.

محاولة للبحث عن حياة ثانية
محاولة للبحث عن حياة ثانية

من أجل هذا اختار المخرج أن يكون الحضور الأبرز لأسرة هذا الغائب. هي أسرة كغيرها من آلاف الأسر الفقيرة التي سحقها غياب الأب وأطاحت بتماسكها مغامرة الهجرة والنزوح. ولعل إسناد البطولة الرئيسية في هذا العمل لصبي صغير كان خيارا موفقا لمخرج العمل، وهو خيار في غاية الصعوبة أيضا، كونه يمثل تحديا خاصا، فالتعامل مع الممثلين في مثل هذا العمر الصغير له عواقبه بلا شك، إذا ما لم يتم ضبط الآداء جيدا، وهو أمر ينطوي على جهد ومثابرة بالغين.

لقد وفق المخرج الأسود إلى حد كبير في ضبط هذا الأداء، وإن لم يخل الأمر بالطبع من بعض الافتعال أحيانا، وهو افتعال له ما يبرره في السياق الدرامي للفيلم.

فيلم “قدحة.. حياة ثانية” للمخرج الأسود كان قد حصل على الجائزة الكبرى في الدورة الثانية والستين لمهرجان سينما الأطفال والناشئة المقام في التشيك، كما حاز على سعفة لجنة التحكيم لأفضل فيلم في مهرجان الفيلم العربي بمدينة تورنتو الكندية. وفاز أيضا بجائزة أفضل فيلم روائي طويل في مهرجان القدس للسينما العربية، وأفضل سيناريو في مهرجان مدينة مالمو السويدية في دورته الثانية عشرة، كما حاز على تنويه خاص في مسابقة آفاق السينما العربية ضمن مهرجان القاهرة السينمائي.

15