قبر الجندي المجهول في تونس صندوق ألغاز وأساطير

معلم تاريخي مجهول حكيت حوله أساطير وروايات شعبية.
الخميس 2021/09/30
سرّ تاريخي

تونس - وسط ظلمة الطريق الممتد والمتعرج داخل سوق السكاجين في تونس العتيقة يبرز للمارة من بعيد قبر تحيطه أسوار حديدية، ولكن لا أحد ممن تعودوا المرور بهذه الطريق في المساء يأبه له.

يتوسط القبر الذي بني فوق ثلاث درجات رخامية الممر الضيق، حيث تمتد على جانبيه المحلات في السوق الذي عرف تاريخيا بصناعة وبيع مستلزمات الفروسية منذ القرن الخامس عشر، وقد رشقت على أطرافه الأربعة قباب نحاسية صغيرة.

ورسمت على سطح القبر وجوانبه لوحات تحمل أشكالا دائرية وذات أقواس أندلسية مزركشة ممزوجة برسم الزهور، ويطغى على الرسوم اللون الأخضر. ولكن لا يحمل القبر الذي مثل مصدر فضول المارة من هناك أي إشارات أو معلومات تاريخية بشأنه.

وسوق السكاجين يرمز في الأصل إلى كلمة الشكازين وهم الحرفيون المتخصصون في تجميل جلود السروج ولباس الفرسان. وهذه حرفة شائعة في السوق خلال القرون الماضية وظلت صامدة حتى القرن التاسع عشر ولكنها تكاد تقتصر اليوم على اثنين أو ثلاثة من الحرفيين.

التجار والحرفيون في سوق السكاجين يُصرون على أن قبر الجندي المجهول يحرس المكان ببركته وكرامته

وأغلب المحلات المحيطة والقريبة من القبر المجهول باتت متخصصة في بيع الجلد ولوازم الزينة التقليدية والفضة وغيرها من السلع.

وترجح بعض الروايات أن القبر يعود إلى أول ضحية سقط برصاص الاستعمار الفرنسي الذي دخل تونس في العام 1881. ولكن هذه الرواية لا تلقى صدى كبيرا لأن تقديرات أخرى تقول إن القبر يعود إلى حقبة أقدم من تلك الفترة بكثير، وتحديدا قبل نحو 500 عام.

ويتناقل الحرفيون والباعة في السوق روايات متضاربة لا تستند إلى مصادر علمية، ولكنها تنسب إلى التراث المنسي وغير الموثق.

وفي العموم يختلف القبر المجهول في تونس عن التقليد الشائع في الدول الغربية التي عممت هذه التجربة بعد سقوط الملايين من الجنود الضحايا في الحرب العالمية من مجهولي الهوية، لتكون تماثيل القبور المجهولة في الولايات المتحدة وأغلب الدول الأوروبية وحتى بعض الدول العربية، بمثابة تكريم للضحايا المنسيين.

ويقول بائع للفواكه الجافة قبالة القبر “لا أحد يعرف سر هذا القبر وما إذا كان قد دفن به فعلا شخص ما. الروايات عديدة ولكن أشهرها أنه يعود لبطل قاوم بشراسة الاحتلال الإسباني”.

وتستند هذه الرواية الشعبية الأولى إلى ما يتناقله الأجداد ويحفظونه الأهالي القاطنون بمحيط السوق، حيث تروي أن جنودا من الاحتلال الإسباني الذي استولى على العاصمة تونس عام 1535 لمدة 40 عاما، قتلوا امرأة حامل لتوأم في بطنها تم دفنها في القبر المجهول.

وفي المقابل تقول الرواية الثانية وهي الأكثر تداولا في السوق حيث رواها أكثر من حرفي من أصحاب المحلات القريبة من القبر، إن جنودا من الإسبان تحرشوا بفتاة مع والدتها وقد أرادوا اغتصابها فما كان منها إلا أن قاومت حتى قتلت جنديا ثم تكفل أبناء الحي بقتل جندي ثان.

لكن باقي الرواية تقول إن الاحتلال الإسباني بعث بإمدادات إضافية من الجنود لإنهاء المقاومة والقصاص من قتلة الجنديين. وقاموا بالفعل بقتل المقاومين بما في ذلك الإخوة السبعة للفتاة.

ويشير حرفي ستيني يبيع الجلد على مقربة من القبر إلى باقي الرواية، قائلا “إن الأخ السابع للفتاة ظل يقاوم الجنود حتى آخر رمق إلى أن فصلوا رأسه عن جسمه، لكن جسمه ظل يتحرك إلى أن انهار في مكان الضريح حيث دفن”.

ومع ترسخ هذه الرواية الأسطورية، لا يذكر المؤرخون بدقة قصة هذا القبر المنسي في سوق السكاجين كما لم تتعرض الكتب التاريخية إلى أي أحداث تحيل إلى القبر المجهول، وقد فتح هذا الفراغ المعرفي العلمي الباب أمام انتشار الروايات والخرافات من حوله حتى تحول إلى مصدر إلهام لنسج الأساطير.

القبر يرمم بشكل دوري ليحافظ على مكانه كمعلم تاريخي مجهول

وأقرب تفسير إلى العلم هو ما ذكره المتخصص في تاريخ مدينة تونس العتيقة وحكم ملوك البايات عبدالستار عمامو، حيث نفى وجود ما عرف بالقبر المجهول في تونس، ورجح أن يكون القبر المنسي وسط السوق كآخر القبور المتبقية من مقبرة قديمة في العاصمة تمت إزالتها بسبب التوسع العمراني في القرن التاسع عشر.

ويضيف عمامو أن 16 قبرا بقيت من المقبرة القديمة تم التخلص منها جميعا ما عدا القبر المنسي الذي رجح أن يكون لشخصية يطلق عليها اسم “الإمام الرصاع”، لكن بسبب عزلته حيكت من حوله الخرافات التي استمرت حتى اليوم.

وتقول رواية أخرى شائعة ومعاصرة إن السلطات حاولت التخلص من القبر بعد الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي في خمسينات القرن الماضي، لكن الأعوان سرعان ما عدلوا عن الفكرة بمجرد أن لاحظوا الدماء تتسرب منه وهم ينهالون بفؤوسهم لتحطيمه.

ولا يوجد ما يوثق هذه الحادثة في السجلات الرسمية لبلدية تونس، ولكن بدلا من إزالته يجري ترميم القبر بشكل دوري ليحافظ على مكانه كمعلم تاريخي مجهول بينما يصر من في السوق على أنه يحرس المكان ببركته وكرامته.

وفي عام 2013 تعرض القبر إلى عملية تخريب من قبل مجهولين ضمن موجة من العداء من قبل جماعات سلفية ضد الزوايا الصوفية ومقامات وأضرحة الأولياء الصالحين المنتشرة في المدينة العتيقة، ولكنه جرى ترميمه من جديد ليحافظ على مكانه إلى أجل غير معلوم.

20