قاسم الساعدي رسام الألم الأسطوري

"أنا طفل يلاحق فراشة ملونة عبر المنافي" تلك جملة قالها الرسام العراقي قاسم الساعدي تلخص سيرته ومزاجه وشغفه بالحياة وحنينه إلى وطن، يعرف أنه لو عاد إليه لن يجده.
حين جرب الحياة السياسية وكان عميقا في انتمائه اكتشف أن جسده لن يتآمر وهو يتعرض للتعذيب على روحه. كانت روحه القوية توحي لجسده بأن يقاوم. لكن الساعدي كان يعرف أن الفن يقيم في مكان آخر وله مهمات تصنع للروح ملاذاتها الآمنة.

حين تحرر من الاستبداد الذي يطارد العقل والعاطفة واللسان عرف كيف يحرر فنه من نظريات الالتزام التي تحد من إمكانية السفر إلى أماكن تقع خارج جغرافيا لم تذكرها كتب التاريخ. لقد تلمس الطريق إلى بلاده الغارقة بالظلام مستعينا بمصباح الفن ولم تعد السياسة تثقل كاهله. إنه فنان. يحب بكل تلك الصفة ويحارب بها.
ينتمي الساعدي إلى جيل فني، ربما هو آخر الأجيال الفنية العراقية التي أتيحت لها فرصة تعلم الرسم بطريقة مدرسية صارمة. فهو ابن الحرفة الذي يعرف أسرارها. وهو في المقابل الرسام الذي تمرد على تلك الهبة ليضع موهبته في خدمة الرسم كما يراه صحيحا ومعافى وقادرا على الانسجام مع قوى الخيال واستثمار طاقتها المتجددة.
حين اختار أن يكون منفيا فإنه قرر الانفصال عن مكانه الأول كما لو أنهما عدوان، غير أنه بعد سنوات من الإقامة في هولندا عاد ليتصالح مع ذلك الوطن الذي كان هو الآخر يعيش منفيا عن نفسه. مسكون الساعدي بكل ما يمت إلى العراق بصلة على مستوى جمالي. من الأغاني مرورا إلى الطلاسم السحرية والرقى وصولا إلى الإشارات والعلامات والرموز الغامضة.
سيرة مفخخة
في هولندا صار يرسم كما لو أنه لم يعرف الرسم من قبل. كان الرسم بالنسبة له مناسبة لاستحضار طقوس العائلة والشوارع الجانبية والأصدقاء الذين اختفوا والحكايات التي لم يعد ألمها يستدعي النسيان.
تحول الرسم من عبادة المرئيات إلى المضي وراء أشباح، يعرف الرسام أن كل واحد منهم يشبهه في لحظة من لحظات سيرته. لم تكن المربعات التي تتشكل منها لوحته إلا مقاطع من سيرته. كل مربع يروي جزءا من تلك السيرة.
◙ رحيله المبكر عن العراق أخر الساعدي عن إقامة معرض شخصي هناك، غير أنه عوض ذلك من خلال إقامة معارض عديدة في هولندا
سيعتبر البعض أن ما فعله الساعدي وهو يبعث الروح في تلك المفردات الجمالية الشعبية هو نوع من التسلية. ذلك ما سيفرح الساعدي. "مَن قال أن التسلية ليست جزءا من الفن؟". سيقال أيضا إنه ليس فنا هادفا. "ذلك ما أعنيه تماما. لن أسمح لحنيني بأن يصطادني" ذلك ما سيقوله وهو يعرف أن منفاه أنقذه من الأفكار الساذجة.
الساعدي رسام فخم بأدوات بسيطة. ذلك ما يبدو في الظاهر غير أنه في الحقيقة رسام قاوم بالبراءة كل ما تعلمه بعد أن تمرد عليه. كل الحرف التي تعلمها الساعدي في مقتبل حياته صارت بالنسبة له وقائع حياة منسية ولم يبق إلا الرسم النقي. إنه خلاصة حياته. يرسم فرحا بحياته ولكي يُسعد الآخرين.
ولد عام 1949. أنهى دراسة الرسم في أكاديمية الفنون الجميلة ببغداد عام 1974. غادر العراق عام 1979. قبل أن يستقر في هولندا "أوترخت" عاش سنوات في سوريا ولبنان وليبيا.
الحكايات في بعدها الجمالي
بسبب رحيله المبكر عن العراق تأخر الساعدي في إقامة معرض شخصي هناك، غير أنه عوض ذلك من خلال إقامة معارض عديدة في هولندا. في تلك المعارض سعى إلى أن يعمق من صلته بذلك المكان الذي صار هناك. كان الجانب الأسطوري في التاريخ العراقي القديم هو الذي فتح أمامه الطريق للتعرف على نسيج الحاضر الذي لم يعشه كاملا.
كانت الحكايات التي لم تقع إلا على شاشة الحلم هي مصدر إلهامه الذي قاده إلى واقع من نوع مختلف. واقع سيكون بمثابة مختبر لتطور أسلوبه الذي جمع بين الفكرة الغامضة التي لم تغادر عجينتها بعد والأشكال المكتظة بسحر الرموز التي استعارها من مصدرين. التراث الرافديني والفلكلور المحلي. صارت لوحته مناسبة للقاء لغتين صوريتين حيتين في المخيلة العراقية.
◙ الساعدي ينتمي إلى جيل فني، ربما هو آخر الأجيال الفنية العراقية التي أتيحت لها فرصة تعلم الرسم بطريقة مدرسية صارمة
كل لوحة من لوحاته هي احتفالية مبهجة بالطرق التي شقتها تلك المخيلة لتكون حاضرة في كل لحظة خلق. استعار الساعدي مفرداته من مصادر إلهامية جاهزة. ذلك صحيح غير أن الصحيح أيضا أنه وهب تلك المفردات بعدا جماليا ينتمي إلى الفن الحديث.
لا بأس إن قلنا إنه اكتشف في تلك المفردات التراثية والشعبية ما يدعم فكرة جمالها الخالد. ذلك في حد ذاته إنجاز، غير أن ما يُحسب للساعدي أنه صنع بإتقان ومهارة لوحة حديثة.
لم تكن الحكايات التي تتضمنها لوحاته تُروى بأسلوب واقعي بل برمزية عالية الكثافة. الأمر الذي ساعده على أن يوازن بين حكائيته وأسلوبه التجريدي. مَن يرى أعماله في الرسم والخزف على حد سواء من غير أن يكون مطلعا على حكايات سومر وبابل والناس العاديين في الأهوار لن يخسر شيئا فالتأثير الجمالي يعوض كل شيء.
الجد والحفيد
عام 2017 أقام الساعدي معرضا شخصيا له في مدينته "أوترخت" بعنوان “هو الذي رأى” الجملة الأشهر في ملحمة جلجامش السومرية. جملة تختصر وتقول كل شيء. لا عن بطلها وحده بل عن البلاد التي قدم منها.
وهي بلاد تظل على قدر هائل من الغموض لما اكتنف تاريخها من تناقض بين الحياة والموت، الضحك والبكاء، الحب والكراهية، الصد والقبول. كان جلجامش حزينا وهو يتساءل عن معنى الحياة من غير خلود. ذلك السؤال الوجودي كان محور المعرض.

اجتهد يومها في دراسة الألواح السومرية والأختام الإسطوانية. ولم يقف حائرا بين اللانهائي الخالد واليومي الزائل، بل جمع بينهما في توافق أراد من خلاله أن يروي سيرة ألمه. فـ”الذي رأى” كان واحدا من أعظم المتألمين في التاريخ البشري. لقد خلد جلجامش سؤاله المتعلق بالمصير البشري من خلال يقين صامت.
الرسام الذي انتصر على عذاباته بالرسم وضع جلجامش نصب عينيه مستعيدا قرابته في البؤس والسعادة. "ذلك جدي وأنا حفيده ونحن الاثنان في المغطس عينه".
كل الصور التي صنعها الساعدي هي ملاحق صورية للملحمة العظيمة التي عاشها الجد العظيم. سيكون على الحفيد أن يمجد ذلك الذي رأى كل شيء وستغني بمجده البلاد.
لا يحتاج الساعدي حين يرسم إلى أن يفرش خرائط سؤاله المصيري. تلك متاهة تصنعها أشكاله من غير أن يستدعيها. لا يزال العراقيون يسيرون في دروب تلك المتاهة وقد يبقون كذلك إلى ما لا نهاية.
ولأن الرسام متحرر من الأوهام العادية، له أوهامه الجمالية الغامضة، فإنه لا يبحث عن معنى الحدث بل عن جمالية وقوعه. وهو ما دفع قاسم الساعدي إلى أن يصنع ذات مرة صناديق مغلقة على أسرارها. السؤال عما في تلك الصناديق هو سؤال عبثي.
ليس مطلوبا من الساعدي أن يقول "حملت في تلك الصناديق حياتي وما بقي من وطني. إنها خزائن ذكريات”، فكل فنه يتمحور حول تلك المسألة التي تقض مضجعه وهو يتساءل “هل نسيت شيئا؟”. ولكن الألم باعتباره سؤالا لا يُنسى. كل العالم الإيقاعي المرح الذي يصنعه الساعدي لا يغطي على ما تنطوي رسوم الساعدي من حزن عظيم.