قارب غارق في المياه الإيطالية يعكس صورة كردستان العراق الطارد لسكانه

الطابع العائلي لمحاولات الهجرة السرية من العراق وإقليم كردستان يعكس رغبة في الهروب النهائي من البلد وقطع الصلة معه.
السبت 2024/06/22
من البحر إلى القبر

أربيل (العراق) - سلطت فاجعة غرق مركب كان يقل عددا كبيرا من المهاجرين الأكراد العراقيين قبالة السواحل الإيطالية، الضوء مجدّدا على تفاقم ظاهرة الهجرة السرّية من إقليم كردستان العراق الذي تحوّل على غرار باقي مناطق البلاد إلى مكان لا يستطاب فيه العيش بفعل تعقّد مشاكله السياسية والاقتصادية والأمنية، وحتى البيئية، وتناقص فرص العمل فيه للآلاف من الشباب المقبلين على سوق الشغل.

ويحاول كل سنة الآلاف من سكان الإقليم العبور نحو أوروبا برّا أو بحرا في رحلات طويلة وشاقة تنطوي على مخاطر تجعل من تلك الرحلات بمثابة مجازفة بالحياة، إذ كثيرا ما تنتهي بمآسٍ مروّعة.

ومطلع الأسبوع الجاري غرق قارب قبالة سواحل جزيرة روتشيلا الإيطالية وعلى متنه حوالي ثمانين مهاجرا معظمهم من الأكراد العراقيين ولم ينج منهم سوى اثني عشر شخصا، فيما تمّ العثور إلى حدود مساء الجمعة على عشرين من جثث من كانوا في المركب.

وبحسب بعض الناجين فقد انطلق المركب يوم الثالث عشر من شهر يونيو الماضي من مدينة بودروم التركية الواقعة على ساحل البحر المتوسط في محافظة موغلا بجنوب غرب تركيا.

وتتضمّن مغامرة العبور من كردستان العراق نحو أوروبا مشاق كبيرة تبدأ من جمع الأموال اللاّزمة لتغطية تكاليف الرحلة بما في ذلك الدفع لسلسلة من المهربين الذين يؤمنون عبور الأراضي التركية قبل الوصول إلى ضفة المتوسط وبدء المغامرة الأخطر للعبور إلى الضفة الأخرى.

وكثيرا ما تأخذ محاولات الهجرة السرية من العراق وإقليم كردستان طابعا عائليا جماعيا يعكس رغبة في الهروب النهائي من البلد وقطع الصلة معه، ويفسّر ذلك وجود الكثير من الأطفال والنساء على متن قوارب الموت ما يجعل حوادث الغرق تتحوّل بدورها إلى مآسٍ عالية كما هو الحال بالنسبة لحادثة الغرق الأخيرة.

uuu

وتقول مجدة الناجية من المركب الذي غرق قبل أيام إنها قضت وشقيقتها هيرو وعائلاتهما خمسة أشهر في تركيا، على أمل العبور إلى أوروبا. لكن من أصل أحد عشر فردا من العائلتين نجا ثلاثة فقط، على ما أكد أقاربهم في أربيل مركز إقليم كردستان العراق لوكالة فرانس برس.

وعلى جدار متهالك عند مدخل منزل العائلة، ملصق يعلن عن موعد مجلس عزاء لاستقبال الأقارب والأصدقاء. وتظهر صورتان عائليتان الضحايا وهم يرتدون أجمل ملابسهم والبسمة مرتسمة على محياهم. وفي الصور تظهر مجدة مع زوجها عبدالقادر سائق التاكسي وهيرو وزوجها ريبوار الحداد. وكان الأربعة مع أطفالهم على متن المركب الشراعي الذي غرق هذا الأسبوع قبالة ساحل كالابريا في إيطاليا.

وتقول خديجة حسين قريبة العائلة “تأكدنا من بقاء مجدة على قيد الحياة وتحدثنا معها عبر الهاتف”. وتضيف أنّ أحد أبناء مجدة نجا أيضا وكذلك أحد أبناء هيرو، موضحة “لكن لا نعرف تفاصيل أخرى عنهم”. لكن العائلة فقدت الأمل في أن يكون البقية على قيد الحياة.

وكادت العائلتان تتخليان عن فكرة السفر الى أوروبا، على ما تضيف ربة المنزل البالغة من العمر أربعة وخمسين عاما، موضحة “أخبروا الأهل بذلك والجميع سعدوا بهذا القرار. لكن في الأسبوع الماضي أقنعهم المهرب بأنه وجد طريقا سهلا وجيدا فقرروا السفر مرة أخرى”.

وكان يفترض بالمسافرين الاتصال بالعائلة عند الوصول إلى وجهتهم. وتقول خديجة “لكن مضى وقت ولم يصل منهم أي خبر أو اتصال”. أما المهرب فأغلق هاتفه.

وتتكرر هذه المأساة كثيرا في كردستان المتمتع بحكم ذاتي ضمن الدولة الاتحادية العراقية، كانت الولايات المتّحدة الأميركية قد وقفت بقوّة وراء إنشائه كأول كيان من نوعه خاص بالأكراد في المنطقة، وعلى أمل أن يكون نموذجا للديمقراطية والاستقرار والازدهار الاقتصادي.

وتمتع الإقليم لفترة محدودة بتلك الميزات لكنّ أوضاعه العامّة سرعان ما تراجعت بفعل مشاكل كثيرة في طريقة إدارة الحكم المحلّي الذي يهيمن عليه بشكل رئيسي الحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة أفراد أسرة بارزاني، وبدرجة أقل حزب الاتّحاد الوطني الكردستاني بقيادة ورثة الرئيس الراحل جلال طالباني.

ويمكن الحديث في الإقليم عن حكم عائلي مقنّع بمسحة ديمقراطية سطحية لا تكفي غالبا لحسم الصراعات الحزبية المؤثرة على وضع الإقليم.

أما اقتصاديا وماليا فقد دخل الإقليم في مشاكل وخلافات كثيرة على حصته من موازنة الدولة العراقية وعلى مسائل أخرى مثل موارد المنافذ الحدودية وتصدير النفط المنتج محليا، وقد تضافر كل ذلك مع ظاهرة الفساد المستشرية ليخلّف آثارا سيئة على الأوضاع الاجتماعية لسكانه يلخّصها التأخر لأشهر متتالية في صرف رواتب الموظفين جرّاء عدم انتظام بغداد في تحويل المبالغ المخصصة.

ii

أما أمنيا فيعاني الإقليم ما يعانيه العراق عموما من فوضى السلاح، كما أنّ سكان العديد من مناطقه يعيشون حالة الحرب المستمرة منذ عقود بين حزب العمال الكرستاني والجيش التركي.

وتفسّر جميع تلك الظروف تفاقم ظاهرة الهجرة السرية من الإقليم، ففي السنوات الأخيرة سلك الآلاف من الأكراد طرق الهجرة، مجازفين بعبور البحر للوصول إلى المملكة المتحدة أو المشي عبر الغابات في بيلاروسيا للوصول إلى الاتحاد الأوروبي.

وأظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة غالوب أنه في العام 2022  اعتبر اثنان من كل ثلاثة من سكان كردستان أنه من الصعب إيجاد وظيفة. وتفيد المنظمة الدولية للهجرة أن نحو 3155 مهاجرا قضوا أو فقدوا في البحر الأبيض المتوسط العام الماضي.

وفي أربيل، في ساحة مدرسة أقيم فيها مجلس العزاء، تجلس العشرات من النساء في خيمة يرتدين ملابس الحداد السوداء، وعلامات التعب بادية على وجوههن في صمت يقطعه فقط بكاء الأطفال.

وفي المسجد، يستقبل رجال العائلة العشرات من المعزين فيما تتلى آيات من القرآن. ويؤكد كمال حمد والد ريبوار أنه تحدث مع ابنه يوما واحدا قبل انطلاقه في رحلة الهجرة المميتة.

وقال رئيس رابطة المهاجرين العائدين من أوروبا بكر علي إن المركب الذي غرق قرب السواحل الإيطالية كان يحمل إلى جانب الأكراد العراقيين إيرانيين وأفغانا.

ويبدو أنّ دوافع الهجرة من العراق بما في ذلك إقليم كردستان باتت أقوى من أسباب البقاء حتى لو توفّرت بحدها الأدنى. ويقول بختيار قادر ابن عم ريبوار إنّه لا يفهم إصرار العائلتين على المغادرة مؤكدا “كانت لديهم منازلهم وسيارتهم وأطفال وأعمالهم الخاصة”.

ويضيف الرجل الأربعيني “أنا بنفسي تحدثت معهم وأيضا مع أقاربهم وأصدقائهم، ولكن لم يسمعوا كلام أحد ولم يتراجعوا عن قرارهم”. ويضيف بحزن “لم يكونوا يعلمون أن الموت ينتظرهم”.

3