في لحظات الاعتلال

تذكّرت بعض أبيات المتنبي في “وصف الحُمّى”. ففي أيامه لم يكن عُرف شيء من التوصيفات الطبية للأمراض. كان جُل الطبابة سحراً وخُزعبلات مشفوعة ببعض حشائش ورُقى كاذبة يصطنعها أدعياء اتصال استثنائي مع الخالق الشافي. إنها حُمّى لئيمة وكفى. يقدّم لها الشاعر الموجوع، فراشاً وثيراً تستريح فيه، فتعافه وتبيت في عظامه. وكل ما حدث بعد ذلك يختزله قائلا “يضيق الجِلدُ عن نفسي وعنها، فتوسعه بأنواع السقام”!
يركز المتنبي في القصيدة الخالدة على ألم الترنّح والعجز عن العمل وتداعيات الثرثرة مع النفس، وهو الذي لم يعرف العطالة في حياته، إذ “تَعوّد أن يُغَبِّر في السرايا، ويدخل من قُتامٍ إلى قتامِ”.
في لحظة الاعتلال، يستعيد المرء شريط الرحلة، ويهجس بكل ذكرى. تتقافز اللقطات بغير انتظام، على امتداد المسافة بين الأمل والألم. الحلم والكابوس. الفرح والحُزن. وتضطرم المشاعر أكثر، عند كل امرئ ألقى بنفسه مبكراً في دائرة النار، مقاتلاً أو ثائراً أو شاعراً أو كاتباً صاحب رأي. فما بالنا بامرئ يقطع من كل طريق شوطاً، ثم يمتشق سلاحاً حصرياً يصنعه لنفسه بنفسه، ويعرف سرّه هو وحده، ولا يحل شفرته أو يعرف تركيبته غيره. يُحضّر في كل يوم أحجية صغيرة مفخخة، شديدة الانفجار.
لديه قضية لا تندثر ولا تُطوى. ولكي تظل حيّة وقوية، لا بد من تقريع الظالم والفاسد والمغرور والسجان، والمستقوي على أهله والمارق والانتهازي والجبان ودعيُ التقوى والكذوب وبائع الأوهام. فلا بد من خوض الحرب ضد كل عناوين القهر باسم كل المقهورين. فهذه حرب لامتناهية في القدم، لامتناهية في الاستمرار، خاضها الشجعان والأنقياء منذ فجر التاريخ، وكان استمرارها وتشعبها من بين سنن الحياة التي ينبغي أن يتعايش معها الأحياء ويؤدون ما يستطيعون لكي لا يغلب الباطل. لا هدنة فيها، ولا تسوية، ولا تنازل، ولا صلح، ولا اعتراف، ولا مفاوضات!
طالما بقيت المظالم والقضايا وظل نهر الزيف يشق طريقه ويشرب المخدوعون ماءه المسمم؛ لن ينتهي دفق الكلام عن الحقيقة والكرامة والماء النقي. إن أكثر الآلام إيلاماً هي تلك التي تصيب الأوطان إلا الأبدان، مثلما قال الشاعر الجواهري في إحدى قصائده “بكيتُ وما على نفسي ولكـن على وطنٍ مُضامٍ مُسْتَهـــانِ”، وقال محمود درويش، وهو يضع الكلام في مجراه الصحيح: قصائدنا بلا لون.. ولا طَعْم.. ولا صوت إذا لم تحمل المصباح إلى كل بيت.. وإذا لم يفهم البسطاء معانيها.. فأولى أن نُذَّريها.. ونخلد نحن للصمت!