في فقه التناقض العوني والتوريث الإلهي
ينجح التيار العوني في كل مرة يقوم فيها بتحرك بجرنا إلى مأزق كبير بخصوص التوصيف والقراءة الممكنة لطبيعة ما يقوم به. ويعيد في كل مرة تدمير الأدوات التي تستعمل عادة لتحليل التحركات وتأويل الخطابات، ويضعها في حالة شلل تام، فالتيار يملك قدرة استثنائية على جعل ممارسة السياسة فعلا لا يتصل بالسياسة بأي شكل من الأشكال.
معجم الأمراض النفسية كذلك لا يمكنه تقديم أي مساعدة في توصيف الحالة العونية، ففي كل مرة نركن فيها إلى توصيف الفعل العوني عبر مرض معروف ونخلد إلى السكينة، يفاجئنا هذا التيار بسلوكات تقع خارج حدود التوصيفات المرضية النفسية المألوفة.
ما جرى خلال الحشد العوني الأخير في ساحة الشهداء، والذي تم تحت عنوان محاربة الفساد، والضغط من أجل انتخاب رئيس للجمهورية لا يمكنه إلا أن يقول لنا إن هذا التيار إنما نزل إلى الشارع دفاعا عن التناقض وليس لأي سبب آخر.
التناقض يمثل جوهر حياة الحالة العونية وسمة ممارستها، ودونه لا تستطيع أن تعيش ولا أن تخاطب نفسها أو الآخرين، فهو الصيغة السحرية التي تجعل كل ما يقوم به التيار معقولا وطبيعيا.
نسخ التيار العوني مفهوم التناقض من حليفه حزب الله الذي طبق وعده الصادق بعدم ترك الجنرال وحده في الشارع، فرفده بحشود حرصت على نفي نسبتها إلى الحزب وإبراز نفسها كجمهور عوني. إخفاء علم الحزب لم يكن ممكنا وكذلك الانتساب النهائي إلى جمهورية الممانعة الذي تجلى بوضوح مع صعود الفنان معين شريف الذي يعمل كعميل مزدوج بين العونيين والحراك الشبابي الشعبي الذي تناصبه العونية العداء إلى المنبر صارخا “لبيك يا نصرالله لبيك يا جنرال”.
كان لافتا أن تلبية نصرالله سبقت تلبية الجنرال، وذلك في احتفال عوني بحت. لم يجد الحشد نفسه مستاء من ذلك التصريح، بل وجد نفسه منسجما معه ومسرورا به، ما يعني أنه يستبطن وعيا يقول إن نصرالله هو المدافع الأقوى عن حقوق المسيحيين. ربما يكون الأنسب قياسا على هذا المنطق العوني نفسه الذي يعتبر أن الحقوق هي لمن يدافع عنها، أن يكون السيد حسن نصرالله هو الرئيس المسيحي القوي وليس الجنرال عون.
منح الحزب التيار العوني لغته وصيّره إلهيا مثله. سمح له تاليا بالخروج الآمن والسهل والمريح من غابة السياسة، بكل ما فيها من ذئاب التسويات والعقلانيات وضرورة النقاش والتواصل. أهدى الحزب التيار بنية التناقض التي لا يمكن للبشر ممارستها، إنما يقتصر استعمالها على الآلهة. هنا بدا التيار وكأنه قد وجد ضالته التي كان يبحث عنها فراح يستعملها ببذخ شديد.
هكذا يمكن للنائب آلان عون أن يقول في تبريره لغياب الديمقراطية في ما يخص انتخابات التيار، والإتيان بجبران باسيل رئيسا دون انتخابات، إن المنطق الذي يحكم الانتخابات الداخلية يختلف عن منطق الانتخابات النيابية.
هكذا يمكن أن يتحول وزراء التيار في الحكومة إلى حركة شعبية مطلبية، وأن يتحول كل تاريخ الفساد الذي كانوا من صناعه وليسوا مجرد مشاركين فيه إلى بنية نضالية تحارب الفساد. هكذا يمكن لمن يرفضون النزول إلى المجلس النيابي لانتخاب رئيس للجمهورية ما لم يكن العنوان هو الاتفاق المسبق على انتخاب ميشال عون رئيسا، أن يكونوا مدافعين شرسين ضد تعطيل البرلمان.
كان هذا الحشد إعلانا لظهور الحالة الباسيلية التي هي أعلى مراحل العونية. الباسيلية تجلت في التأليه الكبير لجبران باسيل الذي لم يكن بين الحشود، ولم يصعد من قلبها إلى المنبر، بل ظهر فجأة وبدأ يلقي خطابه. مظاهر تكريس الباسيلية تكمن في العزلة وانعدام التواصل مع الناس، ولم يكن ظهور الجنرال عون من الرابية وامتناعه عن الحضور شخصيا سوى عملية نقل التأليه من شخصه إلى جبران باسيل. من هنا لا يكون سعي الجنرال المحموم للوصول إلى الرئاسة بعد تجاوزه الثمانين سوى انعكاس لطموح يرغب في توريث جبران هذا الكرسي، وتحويل البلاد كلها إلى جمهورية باسيلية مقفلة، حيث يمكن لأي شي وكل شيء أن يحدث دون أن يترك أي أثر.
كاتب لبناني