في صناعة اليأس

تُصنع الأوهام لدفع الشباب إلى اليأس وتشكيكهم في جدوى الاستقلال الوطني، وفي الإرث الكفاحي لشعوبهم؛ لكي يختزلوا التاريخ في جُمل قصيرة بلهاء، تضرب الحاضر والمستقبل، بكلام عن ماضٍ كاذب!
الأحد 2018/12/30
صناعة الأوهام تضرب الحاضر والمستقبل

تُعد مذكرات الدكتور محمد حسين هيكل (1888ـ1956) التي نُشرت في ثلاثة أجزاء؛ إحدى أهم الشهادات على حقائق الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في مصر، قبل تأسيس الجمهورية. فالرجل كاتب وأديب، تسلّم رئاسة مجلس الشيوخ وهو ممن صاغوا دستور 1923 وشغل مناصب وزارية منها التعليم والشؤون الاجتماعية، وحاز علاقة شخصية بملك البلاد الأخير وأبيه من قبله، وهو صاحب الكتاب الشهير “حياة محمد” الذي طُبعت منه نحو عشرة ملايين نسخة منذ الثلاثينات!

يحزن المرء بأثر رجعي على أحوال مصر قبل تأسيس الجمهورية، ويعجب كيف استطاع تحالف الأصوليين مع شرائح اجتماعية – اقتصادية مستغلة، أن يزرع في أذهان الناشئة من الأجيال الجديدة، الفكرة التي تزعم أن مصر كانت شبيهة إنكلترا قبل تأسيس النظام الجمهوري، وأن ما عندها من فائض الذهب والثروة كان يُعد بالأطنان، ليس له تصريف بعد رغد العيش!

الأصوليون والطفيليون، استغلوا أن الشباب لا يقرأون، فاعتمدوا على صورة لشارع يقطنه متمصرون وأجانب، أو على مسلسل تلفزيوني عن العهد الملكي، تكتب له السيناريو أخصائية أمراض نسائية، أتاح لها النظام الجمهوري أن تتعلم الطب مجاناً. وبهذه الخدع البصرية، راحت أذهان الكثير من الشباب، إلى مشاهد السينما القديمة من إخراج توغو مزراحي وتمثيل استيفان روستي ونجيب الريحاني أو ليلى مراد، وإلى اللقطات من داخل “ستوديو مصر” في الجيزة، يظنونها مشاهد من حياة المصريين!

في مذكرات السياسي المخضرم، هناك مئات اللقطات والوقائع الدالة على الحرمان والتحكم الأجنبي في مصير البلاد والعباد. يصف الرجل كوزير للمعارف ــ مثلا ــ كيف اصطدم في اليوم الأول من عمله كوزير للمعارف، بعجز الدولة عن تلبية المتطلب الدستوري بالتوسع الأفقي في التعليم، ووصف حال المدارس القليلة المكتظة التي تسكنها الحشرات.

طلب من وزير المالية اعتمادات مالية لبناء بعض المدارس، فأفاده الأخير بعد البحث، أن المتاح لا يزيد مليما عن سبعين ألف جنيه. ولما رضي بهم، هجم عليه موظفو الوزارة يريدون زيادة رواتبهم، لتغطية معيشتهم، لكن التي حسمت الأمر الطبيبة الإنكليزية المسؤولة عن التفتيش الصحي في الوزارة، إذ طلبت المبلغ وقدمت صورة عن أطفال في المحافظات يذهبون إلى المدارس الإلزامية حُفاة وشبه عراة وجائعين لا يستطيعون التركيز، ويمكن أن يساعد المبلغ، المدارس القليلة الموجودة، على تقديم لقمة غذاء للتلميذ لكي يستوعب درسه. وعندما سمع الوزير هذا الكلام، خلع من الوزارة كلها!

مئات اللقطات، عن العجز والحرمان والمهانة، قبل النظام الجمهوري الذي أنشأ أربعة آلاف مدرسة، في السنوات الخمس الأولى من ظهوره.

تُصنع الأوهام لدفع الشباب إلى اليأس وتشكيكهم في جدوى الاستقلال الوطني، وفي الإرث الكفاحي لشعوبهم؛ لكي يختزلوا التاريخ في جُمل قصيرة بلهاء، تضرب الحاضر والمستقبل، بكلام عن ماضٍ كاذب!

24