في رحيلِ الكاتب التونسي محمد الهادي بن صالح.. إكرامُ الكاتبِ قراءتُه

يوسف خديم الله
عندما باشرت بحثي السوسيولوجي في درجة شهادة الدّراسات المعمّقة DEA، خالدة الذّكر، في بداية القرن الراهن، وكانت الرواية التونسيّة مدوّنته الأساسيّة، ثبت لي آنذاك -إحصائيا على الأقلّ- أنّ لنا في تونس الشقيقة كاتبا كبيرا “مغمورا”، أرّخ، سرديّا، على طريقته، لمرحلة هامة من التحوّلات الاجتماعية للبلاد في عشرية الستينات والسبعينات خاصّة، هو محمد الهادي بن صالح الذي غادرنا مطلع هذا الأسبوع.
لقد كان أمرا يكذّبُ ادّعاءات النقاد “المهنيين” الذين ساهموا في تثبيت “الوقف” الأدبي ومجده -على ضآلته- عند علمين لا يزيدان عن البشير خريف ومحمود المسعدي. وفي الأثناء، في التّسعينات تحديدا، وقع تمرير وتكريس روايات كان أصحابها في بداية الطريق، وهم بالمناسبة، من مدرّسي الجامعات، وممن يتأرجحون في أفلاك النّظام و”جامعاته الصيفيّة”.
وهؤلاء أنفسهم، ظلّوا يروجون لطلبتهم ومرتادي الندوات الأدبية المأجورة طبعا – عفوا وقصدا- أن لا رواية في تونس لأن لا تراكمَ كميا بعدُ يمكّنها من أن تكون، و لا روائييَّ إلاّ من كان في الصّورة، يكتب و ينشر و يفوز بالجوائز والأوسمة و يلمع في الإذاعات والتّلفزيونات ويُكرّم بمناسبة ومن دون مناسبة.
طبعا، هم راكموا ما كتبوا شيئا فشيئا، على طريقتهم، واحتكروا الموائد -التي هي لهم أصلا- واحتلّوا الصّدارة الإعلامية، فيما بقي واحد مثل محمد الهادي بن صالح غريبا في بيته، لا أحد يلتفت إليه من الكتّاب ولا من الصحافيين ولا من القرّاء طبعا، عدا الرفقة القليلة التي كان يحرص على لقائها في نادي القصّة.
وعليه، فإنّ تواطؤا ضمنيّا حول الإقصاء الناعم للرّجل قد حصل بين الكتاّب ذوي الرّصيد الصاعد، أولئك، والصحافيين الثقافيين ومن جاورهم في الفضاء العام، بترويج أنّ من طبعه الميل إلى العزلة، وعدم الظّهور والترفّع عن ارتياد الملمات الثقافية. وذي تعلّة بائسة مشبوهة غالبا ما يلقي بها أولئك للعموم كلّما همس أحدهم باسم كاتب أو شاعر شاءت استراتيجيّات المراقبة الثقافية إبعاده بطريقة أو بأخرى من واجهة التداول الإعلامي.
هم لا ريب يعرفون أنه لم يكن فعلا من الحلقة “المحظوظة” القريبة من نواة كتّاب السلطة التي تفتح أمامهم أبواب دور النّشر الرسمية بسهولة الماء. ولعلّه لذلك، بقي على دأب كبير في الكتابة والنّشر باعتباره الردّ الداخلي الوحيد للثّأر من شعور دفين بالضّيم، فبقي أغزر الراوئيين إنتاجا.
وإن كنت أكرِهت، منهجيّا، على إبعاد تجربة محمد الهادي بن صالح- مؤقتا على الأقل- من حيّز اختياراتي البحثية تلك، فإن هذه المعاينة سببت لي أزمة “ضمير ثقافيّ” حادّة بحكم مناصرتي البديهية وغير المحسوبة لكلّ فاعل هامشيّ مُبعد، بل كادت تفجّر مشروعي ذاك من أساسه:
إدراكي للضّيم الصّامت الذي لحقه ضاعف ضيما شخصيّا، أعانيه أنا أيضا:
موضوعيا، لأنه “مشى في الساقين”، كما يقول العامّة باللسان الدّارج التونسي، سيقان هرولة الواقفين على الشأن الثقافي والعلمي نحو غرف المصالح التي تزيّف الرهانات والمصائر.
ذاتيّا، لأنني، وإن كنت مقلاّ في الكتابة كما في كلّ شيء، فإن القليل الذي كتبت، والأقل الذي نشرت فتح بصيرتي على أن الضّيم، ضيم الكاتب، في بلاد يسود فيها المستكتبون بمختلف درجاتهم، ليس حالة أو شعورا يائسا – كحبّ من طرف واحد- إنما هو بناء له تاريخ وسيرورة خفيّة أو مكتومة، من فاعلها أو مفعولها، لا فرق.
كنت أسلّي النفس بأنني عائد لا مفرّ يوما ما لتسديد دينٍ شخصي تجاه الذّاكرة الثقافية الوطنيّة المزوّرة، فأعيد قراءة أعمال الرّجل وأساهم، وإن رمزيا، في استدراك قامته ومقامه المهدورين، لولا استغراقي في ذلك البحث، البحث الذي لم يكن إلا انتفاضتي الذّهنية ضدّ ضيمي الشخصي، ومن وراءه، ضدّ كل مؤسّسات الضيم، العلمية أولا، والثقافيّة دائما.
أما اليوم، وقد رحل كاتبنا، في صمت علت عليه ثرثرة المهرولين، باسم مزاعم منسوبة لثورة بُنيت على ثقافة فاسدة لم يثر عليها أحد، كنت ألاحقها، بطريقتي التي تقطع عليّ الطرق، فإنّ أضعف إيمان من يتداول خبر موته أن يقرأ ما كتب في حياته.. التي هي حياتنا أيضا.
الروائي محمد الهادي بن صالح ولد بمدينة نفطة سنة 1945 وتخرج من المعهد القومي للتعاضد في التقنية الاقتصادية والتصرف، وعمل كرئيس قسم المحاسبة بالمركز القومي للجلود والأحذية إلى حين إحالته على التقاعد.
أصدر عددا كبيرا من الروايات والمجموعات القصصية، نذكر من بينها: “في بيت العنكبوت” الدّار العربية للكتاب، تونس 1976، “الجسد والعصا”، دار صفاء تونس 1980، “الحركة وانتكاس الشمس″، دار صفاء، تونس 1983، “سفر النقلة والتصور”، الدار التونسية للنّشر، تونس 1988، “الناس والحجارة”، الدار التونسية للنّشر، تونس 1988، “كلب السبخة”، دار بوزيد للنشر، تونس 1990، “من حقه أن يحلم”، دار بوزيد للنشر، تونس 1991، “ألق التوبة”، دار بوزيد للنشر، تونس 1992، “عودة عزة المغتربة”، دار بوزيد للنشر، تونس 1994، “الغربان تأتي من الغرب”، دون ناشر، تونس 1998، “بيت لا يعرف الدفء”، دار بوزيد للنشر، تونس 2000، “الأبنية الهشة”، دار بوزيد للنشر، تونس 1994، “تراب على أعتاب الليل”، دار بوزيد للنشر، تونس 2004، “راحة المجنون”، دار بوزيد للنشر، تونس 2006، “بابُ الرّحمة”، 2008، “ورقاتٌ من كتاب العزلة”، 2009، “للصمت معنى”، 2011.
ومن آثاره المهمّة تحقيقه لمجموعة قصصية “الرماد”، لمحمد العريبي و”بنت قصر الجم” و”المهاجر” رواية ومجموعة قصصيّة لزين العابدين السنوسي.