في ذكرى ميلاده الـ300 أفكار كانط ما تزال تثير الجدل

نال الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط انتشارا عالميا لكونية أفكاره، خاصة منها ما خصه لبحث في العقل والأخلاق، وبما وهبه للإنسانية من توجهات فكرية تعلي قيمة الإنسان وحقوقه، ولكن يبدو أن الفيلسوف تحول إلى محل تجاذب بين مختلف القوى التي تفسر أفكاره وفق توجهها، ما يعتبر بمثابة السطو على فكره.
أندري بالين
كالينينغراد (روسيا)- بجوار كاتدرائية كونيغسبرغ الواقعة فيما يعرف اليوم بكالينينغراد الروسية يستمتع الزوار بشمس الربيع مع نبيذ كانط، وسط أعمال بناء تجري على قدم وساق في كورنيش الجزيرة الحاضنة للكتدرائية وسط نهر بريجيل للانتهاء بحلول الصيف من إنشاء مسارات للدراجات ومسار للركض في الجزيرة التي كانت تُسمى سابقا “كنايبهوف” وتعرف الآن بـ“جزيرة كانط”.
يقول مدير متحف كانط في الجزيرة، غريغوري خوزييف، بمناسبة الذكرى الـ300 لميلاد الفيلسوف الألماني الشهير إيمانويل كانط: “نحاول أن نجعل الجزيرة مريحة قدر الإمكان للناس”. ومن المقرر إعادة افتتاح المتحف نفسه بالتزامن مع يوم ذكرى ميلاد كانط في الثاني والعشرين من أبريل الجاري، وسيرافق ذلك إقامة حفل موسيقي في الكاتدرائية.
كانط وبصماته
خوزييف هو المسؤول عن المجمع بأكمله. ويزين مقبرة كانط الجدار الخلفي لكاتدرائية كونيغسبرغ، التي ما تزال معلما بارزا في المدينة حتى يومنا هذا. تعتبر الكنيسة، التي يعود تاريخها إلى العصر القوطي، المبنى التاريخي الوحيد المهم الذي نجا من القصف خلال الحرب العالمية الثانية وموجة الهدم اللاحقة خلال العهد السوفييتي في البلدة القديمة بكالينينغراد التي كان يُطلق عليها سابقا اسم كونيغسبرغ.
كانط أحد المفكرين المفضلين لدى بوتين يقول خوزييف: “لقد حاولت القيادة السوفييتية تدمير أكبر قدر ممكن من الأشياء المتعلقة بالنزعة العسكرية البروسية – كما أطلقوا عليها – لكن مقبرة كانط أنقذت جدران الكاتدرائية”، مضيفا أن الشيوعيين لم يمسوا الكنيسة، لأنهم اعتبروا كانط رائدا للماركسية – اللينينية.
يعتبر كانط (1804-1724) أشهر فيلسوف ألماني في عصر التنوير، وعلى خلفية هذه الشعبية استخدمت العديد من التيارات السياسية كتاباته في تبرير أيديولوجيتها.
ومؤخرا اختار الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، كانط باعتباره أحد المفكرين المفضلين لديه إلى جانب الفيلسوف الديني نيكولاي بيرديائيف، الذي ولد فيما يعرف الآن بأوكرانيا. قال بوتين خلال محادثة مع عائلات لعسكريين روس قتلوا في أوكرانيا، إن الأمر يستحق قراءة كانط ومحاولة فهمه.
ومن المشكوك فيه ما إذا كان المستنير الألماني سيعجبه تفسير بوتن لدعوته: “تحل بالشجاعة لاستخدام عقلك”. واستخدم رئيس الكرملين هذه المقولة لتبرير الحرب التي أمر بها ضد أوكرانيا. وبالنسبة إلى روسيا، فإن استخدام العقل يعني الاسترشاد بمصالحها الوطنية. وقال بوتين: “نحن نحاول القيام بذلك”.
كتب كانط في أحد أشهر أعماله “نحو السلام الأبدي” عام 1795: “لا ينبغي لأي دولة أن تتدخل بعنف في دستور وحكومة دولة أخرى”. وقد ترك العمل بصماته في القانون الدولي، على سبيل المثال في صياغة ميثاق الأمم المتحدة.
لكن بوتين تجاهل ذلك عندما أصدر الأمر بغزو الدولة المجاورة – أوكرانيا – قبل عامين، وبارتكاب مذبحة في بوتشا والقصف المستمر للبنية التحتية المدنية في أوكرانيا. ينتهك الجيش الروسي أيضا مبادئ أخرى طالب بها كانط خلال خوض الحروب، وهي أمور لا تجعل الثقة في السلام المستقبلي مستحيلة، ولكنها على الأقل تجعل تحقيقه أكثر صعوبة.
كما رأى الفيلسوف الألماني في النظام الجمهوري – أي المجتمع المنظم على نحو متحرر – أفضل ضمانة للحيلولة دون اندلاع حروب مستقبلية. وهذا هو أحد الأسباب التي دفعته إلى الخوف من الوقوع في مشكلات مع الرقابة البروسية عندما تم نشر هذا العمل. وتتشابه الظروف نفسها مع الوقت الحاضر، حيث وصل تقييد الحريات والملاحقات القضائية للمخالفين في الرأي إلى أبعاد مخيفة في روسيا.
في البداية كان مدرسا خاصا، ثم أستاذ للميتافيزيقا، وكان كانط مشهورا بالفعل عندما تم نشر كتابه “نحو السلام الأبدي”. كما أن كتابه “نقد العقل المحض” قبل حوالي قرنين من الزمن، يعتبر ثورة في الفكر، منحه أيضا بعض الحماية من سلطات الرقابة في بعض النواحي. وبالطبع جاء المجد والاعتراف العلمييْن في وقت متأخر من حياة الرجل الذي ولد عام 1724 في كونيغسبرغ التي كانت آنذاك جزءا من ألمانيا البروسية.
وعقب دراسته اضطر كانط في البداية لتغطية نفقاته بالعمل مدرسا خاصا، وقضى عدة سنوات في هذه المهنة لدى قس في بلدة يودتشن الصغيرة – فيسيولوفكا اليوم – على بعد حوالي 100 كيلومتر من كونيغسبرغ. ويعد الفرع الذي بناه متحف كانط هناك عام 2018 في منزل القس بمثابة تذكير بالفيلسوف وعصره. وفي العام الحالي تم إلحاق دار ضيافة بالفرع لعقد ندوات للعلماء والفنانين الشباب.
حصل كانط على درجة الأستاذية في المنطق والميتافيزيقا عام 1770 في عمر يناهز 46 عاما. وقبل ذلك قام بالتدريس لفترة طويلة كمحاضر خاص في المنطق والميتافيزيقا والفلسفة الأخلاقية واللاهوت والرياضيات والفيزياء والجغرافيا والأنثروبولوجيا والتربية والقانون الطبيعي.
الاستحواذ على الفيلسوف
ربما كان انعدام الأمان المالي خلال سنوات شبابه أحد العوامل التي جعلت كانط لم يتزوج أبدا، حسبما يخمن فالنتين بالانوفسكي، زميل أبحاث قيادي في كلية الفلسفة بجامعة كانط في كالينينغراد. وبمناسبة الذكرى السنوية الـ300 لميلاد كانط يؤلف بالانوفسكي كتابا يهدف فيه إلى شرح مبسط لفلسفة المُنّظِر الألماني، الذي يعتبر أحيانا صعب الفهم.
يتحمس بالانوفسكي بشكل خاص لنظرية المعرفة عند كانط، وكذلك أيضا لشروحاته حول الأخلاق. وقد وجدت الكرامة الإنسانية التي صاغها كانط طريقها إلى الدستور الألماني.
واستغل حاكم كالينينغراد أنطون أليخانوف فلسفة كانط حول الأخلاق في الترويج لفرضية استفزازية مفادها أن كانط مهد الطريق للنسبية الأخلاقية للغرب، ومن ثم يتحمل إلى حد ما الذنب في الحرب في أوكرانيا، مشيرا في المقابل إلى أن روسيا تتمسك بقيم أبدية.
لكن هذا التفسير قوبل بمقاومة في مسقط رأس كانط، حيث عبر الناقدون في كالينينغراد عن معارضتهم على شبكات التواصل الاجتماعي تحت شعار: “ارفعوا أيديكم عن كانطنا”. وقد يكون للشعور بالوطنية لدى سكان كالينينغراد المتجسد في الاستحواذ على الفيلسوف الألماني العالمي علاقة أيضا بحقيقة أنه قضى حياته كلها – باستثناء السنوات التي قضاها كمدرس خاص – في كونيغسبرغ، حتى أنه مكث هناك خلال السنوات الأربع (1758-1762) عندما احتلت القوات الروسية كونيغسبرغ خلال حرب السنوات السبع.
يقول خوزييف موضحا أهمية كانط بالنسبة لسكان كالينينغراد اليوم: “إنه بلا شك الابن الأعظم لمدينتنا”، مضيفا أن كانط بالنسبة له شخصيا رائد دولة القانون. ولم يعلق خوزييف على حقيقة أن تلك الدولة يتم تقويضها اليوم مجددا في روسيا.