في حضرة "القاع" التي لم تعد لنا ولم تعد هنا
أكثر ما يثير الرعب في مشهد التفجيرات الانتحارية التي ضربت بلدة القاع أنه لم يعد من الممكن تركيب سياق مباشر ومحليّ لها بل باتت مجرّد تفصيل من جملة تفاصيل كبرى ترتبط بالرقة وحلب وبغداد وإسطنبول.
لم تعد القاع هنا ولم نعد قادرين على التعرف عليها ولا على رسم ملامحها لبنانيا. خرجت من الحدود لتقيم في ما وراء الحدود. دفعتها سلاسل الارتباطات الموصولة بواقع التفجيرات الانتحارية، إلى حالة قاسية من ضياع المعاني وتشتتها. موجة التفجيرات الأولى خلقت سياقات تحليلية تقول إن القاع لم تكن مستهدفة، بل كانت معبرا لتنفيذ عمليات في أماكن أخرى، وبذلك لم يكن يحق للقرية أن تبكي شهدائها الذين افتدوا البلاد فقد تم إدخالهم في دائرة الشعر التي لا تحتمل في هذه اللحظة، وباتوا شهداء الوطن الملتبس، وليسوا أبناء بلدتهم.
الموجة الثانية من التفجيرات عكست المعاني التي سادت إثر الموجة الأولى، فباتت القرية مستهدفة في حدّ ذاتها. اتفق على هذا التوصيف رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع وأحد نواب كتلة حزب الله، ولكن في الآن نفسه لم يُسمح لأهل القرية بتركيب معاني شهادتهم وتنظيم شؤون مصيبتهم.
تحوّلت ردود الأفعال المباشرة التي قاموا بها ومشاهد حمل السلاح إلى جزء من خطابات ذاكرة عسكرية حربية، تلقي بظلالها على حاضر مريض لا يقدم نموذجا تحتذي به هذه الصورةُ، سوى في الصورة التي يسيطر حزب الله على ظروفها، ويتحكم بإنتاجها وإدارتها. هكذا بات أهل القاع عناصر ميليشيوية تستعيد نغمة الأمن الذاتي. لم يقل الأهالي ذلك، بل أُسبغ عليهم هذا المعنى بقوة الإسقاطات السياسية التي حاصرتهم بمشهدية لم يكونوا صناعها.
مشاهد السلاح التي ظهرت عند هؤلاء المواطنين العزل كانت فعلا غريزيا مباشرا مستقلا عن السياسة. مشروعيته الأولية تكمن في هذا البعد بالتحديد الذي سرعان ما نزع عن المشهد لتلصق به سلسلة تأويلات رأت فيه عسكرة للمجتمع المسيحي، وركبت انطلاقا منه عنصرية شرسة ضد اللاجئين السوريين.
لم تعد القاع هنا. وقع مشهد النساء السبعينيات اللواتي يحملن السلاح في حفرة الاستثمار، وصار موجها ليس إلى صدور الانتحاريين ولكن إلى صدور لبنانية أخرى، لم يعلن أبناء القاع توجيه سلاحهم إليها. لم تعد القاع هنا لأنها أخرجت من جغرافيتها ومن خصوصيتها، وصارت مسرحا لمجزرة تقع في مكان آخر. كنا نتذكر القاع ولا نراها. لم يرها أحد من قبل ولم يرها أحد في عز مصابها وهي مرشحة لامتناع الرؤية في المستقبل. حضرت لتدل على ما ليس فيها وعلى ما لم ترد أن تكون جزءا منه.
قالوا إن شهداءها افتدوا الوطن لكي لا يكون لها شهداء، وكي لا يكون لأبناء البلدة الحق في النطق باسمهم. كيف يمكن للمرء أن يكون شهيدا للوطن في لبنان؟ وكيف يمكن افتداء لبنان؟ هل هناك إجماع على شيء واحد يمكن أن يجعل من هذه المساحة من الخراب وطنا قابلا للافتداء؟
لم يكونوا مستهدفين لأنهم مسيحيون، كانوا مستهدفين لأنهم عراة من الأمن ومن الدولة ومن الحضور ومن العيش. الخطاب الذي يعتبر أن عدد الشهداء الذي لا يتجاوز الخمسة مقارنة بعدد الانتحاريين الذي وصل إلى تسعة يعني فشلا تاما للانتحاريين، يعكس خفة رهيبة، ويفصح عن منطق إحصائي لا يصلح للنظر في الشؤون التي تنطوي على بعد إنساني.
خطاب العدد هو خطاب حربي يحرم المشهد من أن يكون اعتداء خالصا وجريمة من طرف واحد، بل يقول وكأن هناك معركة بين أنداد في القيمة وفي التوجه وفي القدرات، وقد انتصر فيها الطرف الذي سقط له العدد الأقل من القتلى.
كاتب لبناني