في حضرة الأغنيات

تُضجرني السياقة لمسافات طويلة في الشتاء، ويُضجرني أكثر أثناءها هطول المطر بغزارة. الهاتف الذكي، الموصول بشبكة العنكبوت، يتيح لمن يريد مغالبة الضجر، أن يستمع إلى ما يشاء. وإذ لا شغف لديّ بالأغنيات الجديدة؛ تراني أفتش عن القديم العاطفي الذي يفتح بابا لمساءلة النفس واستعادة مشاعر تشكلت منذ أيام الاستماع الأول لكل أغنية. يبدأ التأمل ذو الخاصية الوَرَعية، ويتداعى التعقب لخيوط الحياة.
مع بساطة الكلمات، التي تشفع لها أصوات عذبة تصدح بها، فإن حكايات الأغنيات القديمة وسردياتها، مهذبة وأقل جنسانية بكثير، من بعض العظات الدينية. يقتصر دورانها على فرضيات الحب والشوق، الهجر والشجن، خيبة الأمل أو ومضات الفرح الاحتفالي. وكل هذه مستقاة، في أصولها الأولى، عن طبائع المجتمع وافتتانه بالجمال اللافت، دون الذهاب مع الهوى إلى المذموم!
يختلف سماع الأغنيات القديمة، عن سماع جديد الأغنيات عبر شرائطها المصورة. وبالمجمل، ليس صحيحا ما يزعمه الفقه الظلامي، حين يقول إن الاستماع إلى الموسيقى يجر إلى المعاصي، أو أن المستمع يشتري لهو الحديث، وأن أصوات المزمار والربابة والعود والكمان، تصد عن سبيل الله. فما يصدُ عن سبيل الله، ومن يطرد الإنسان من حومة البشرية، هو الإدمان على صرير السكين التي تذبح بريئا، وتُحيل الأنثى إلى محض فرج أو ضلعٍ، إن حاول الذكر تقويمه سيكسره، وإن استمتع به، فإنه يفعل ذلك وفي الضلع عوَجْ، وغير ذلك من الأوصاف المرعبة!
لا حديث صحيحا عن تحريم الغناء، وأقصى الصحيح الذي قيل فيه، أن حَسَنهُ حسن، وقبيحه قبيح. وفي الواقع لا قبيح في الأغنيات العاطفية. إنها تثير الشجن ولا تثير الغرائز. لكن الهاجس الجنسي الذي يجعل أصحابه يرون في كل شيء مقاربة مضاجعة، لا يزال يستأثر على عقولهم ويؤثر على نظرتهم للقضايا المصيرية!
يتميّز معظم الغناء العربي، بالنبرات الحزينة، وهذه ظاهرة تولى باحثون ألمان تقصي أسبابها، من خلال تحليل الشعور الذي يدفع إلى اختيارها، فوجدوا أن الطرب الحزين، يستحث مجموعة واسعة من المشاعر الإيجابية، كالحنين والسكينة والهدوء، ورِقّة الإحساس، والإحساس بالثقة والميل إلى التساؤل. وذهبوا إلى أن الموسيقى الحزينة، ليست جميلة ومسليّة وحسب، وإنما تلعب أيضا دورا في جلب السعادة والراحة النفسية، إذ تنظم صيرورات المزاج والعواطف السلبية!
على امتداد الطريق الطويلة، ومع هطول الأمطار، رافقتني الأغنيات الحزينة، التي فعلت فعلها المضاد، تذكيرا بالزمن الجميل، واستدعاء لوجوه رافقت أيامنا ثم رحلت عن الدنيا أو غابت عن النظر!