في حضرة الأستاذ

الاثنين 2015/09/14

على ضفاف نيل القاهرة الساحر القادم من قلب المدى البعيد تتراص بعض البنايات وتتزاحم لتحظى بمساحة على وقع هديره الساحر، يسكنها بعض الكبار المفتونين بجمال النيل، وفي بناية شاهقة تجمع من بين ساكنيها الأستاذ نجيب محفوظ والكاتب محمد سلماوي والجميلة برلنتي عبدالحميد، فهناك يسكن الفكر ويهدأ القلب لمنظر النيل الخلاب.

كان عام 1997 والخريف يقذف أوراق الشجر ويطيره لعالم مجهول، أوراق يقتلها الجفاف ويحتل قلبها فتسقط لتتسع مساحات شاسعة لأوراق جديدة أكثر نضارة وإخضرارا، جلست على حافة مكتبي الصغير بجريدتي أشير لرئيس التحرير بالموافقة على التحدي وقبول إجراء حوار صحفي مع الأستاذ نجيب محفوظ، قبول أدهش الجميع لصحفية شابة مازالت تخطو أولى خطواتها اللاهثة نحو التفرد، سرعان ما استفاقت شهيتي الصحفية على مأزق غزلته لنفسي من قلب التحدي والحماس، وتساؤلات عديدة تتقاذف لذهني تتدافع كالموج الهادر، هل سيوافق على محاورة شابة مثلي وهو الفريد وصاحب نوبل وأول أديب عربي يقتنص تلك الجائزة.

في ليل طيرتني الأحلام فيه لعوالم بعيدة هاتفته على هاتفه المنزلي فإذا به يقبل الحوار على الفور، ولا أنكر أنني استخدمت عدة أسلحة أولها “مذاكرة” تاريخه الأدبي الذي كنت أحفظ الكثير منه.

طير الهواء شالا صوفيا كنت أتدثر به من بقايا صقيع يلف الجو وأنا ذاهبة للأستاذ، قبل الأمن المكلف بحمايته دخولي ورفض المصور لا لشيء إلا أنني لم أحصل على موافقة مسبقة باصطحاب مصور معي.

حرمني احتجاز المصور من كادر كنت أتمنى أن أسكن منتصفه في صورة مع الأستاذ أحتفظ بها لأبناء لم يحملهم رحمي بعد، وهكذا أصبحت صورته أحادية التقطها أحدهم منذ فترة.

كان لطيفا ودودا يترفق بي في إجابات تتسارع وقلمي لا يطاوعني لاستجابة سريعة، ومسجل يلهث وراء كلمات تعبر حدود الجدران الأربعة إلى فضاء أرحب، فيض من العلم والثقافة تنساب من حنايا حديث ثنائي ممتع، أشعرني بأبوة راقية أكدت لي أنه أكبر من كل الجوائز، وأرقى من أي تكريم، علا صوت ضحكته حين ذكرته بمهنة ضاعت بين الروايات والكتب المتراصة بالمكتبات بتوقيع “نجيب محفوظ”. سألته عن شعور لم يفصح عنه حين كتب السيناريو والحوار لبعض الأفلام، فقال كانت ظروفي المادية ومتطلبات أسرية تدفعني دفعا حثيثا للترفيع في مصادر دخلي وكانت فترة صعبة، ولكنني حين دخلت عالم السيناريو على يد صلاح أبوسيف كان لابد لي من العمل الجاد فهكذا تعلمت، وكتبت سيناريوهات عديدة لروائع كتاب آخرين مثل “أنا حرة”، و”الطريق المسدود” لصديقي إحسان عبدالقدوس وغيرها الكثير.

تشكيله الأدبي والثقافي ومنبهات وعيه الأول كانت للحارة والدرب والأزقة ومن قبلها الأم البسيطة التي كانت تصطحب ابنها طفلا لزيارة المتاحف والأماكن الأثرية.

طال الحديث لساعتين ولساني لا يطاوعني للاستئذان بالانصراف ولكن قلبي يحثني على تركه لراحة ببيت أصبح حبيسه بسبب غدر “قاتل معتوه” غيبوه في عالم الجهل، أمسك بسلاح أجبن منه وحاول قتل “ضمير الحارة” والشاهد على فترات الخصوبة الثقافية، حرمته تلك الحادثة من الأنس بالأصدقاء بمقهى “ريش”، وحتى رفيقه القلم لم تعد يده تقوى على الإمساك به.

الحديث في حضرة الأستاذ نجيب محفوظ برقة الياسمين وطعم الكرز، والحديث عنه أرحب من أن تستوعبه صفحات بإطار محدد ولكنها باقة زهور أضعها على قبره، وقبلة خجولة على جبين الزمن.

21